أشرف الحساني يكتب: ميّت يُحبّ الضوء

أشرف الحساني

في 24/10/2023 على الساعة 17:00, تحديث بتاريخ 24/10/2023 على الساعة 17:00

ما الذي يستطيع المرء قوله بعد رحيل من يُحبّ؟ تبدو الكتابة وكأنّها ضربٌ من المخاض الأليم. معاناة وألم وامتعاض من كلّ شيء. الكلمات أتخيّلها طلقات فارغة مُوجّهة صوب الجسد. الأسطر تُشبه السياجات المُظلمة التي سترمي بي لا محالة في السجن. النقطة نفسها تُرهب الحواس وترُجّ معها مسام الجسد. النقطة في التقليد المعرفي تُحيل على انتهاء جملة لتبدأ أخرى، إنّها بمثابة حياةٍ جديدة للجمل. لكنْ لا فصل جديدٍ بالنسبة لي. كلّ شيءٍ انتهى. النقطة هي النقطة. إنّها علامة عن رحيل حياةٍ، طالما حلمت بها وحلمت بي.

حين يفقد المرء من ساهم في تربيته ودراسته وعيشه وخبزه وأحلامه، يُصبح مثل الميّت الحيّ. من أين نأتي بكلّ الجهد للاستمرار في حياتنا؟ كيف نستطيع المشي بدون من نُحبّ؟ ما قيمة الكتابة أمام الموت؟ هل الكتابة حقاً محوٌ يساعد على النسيان؟ أم أنّها لهيبٌ خفيّ يُؤجّج سراديب الروح ويدفعها إلى نسج نوسطالجيا مع الأجساد والأمكنة والكلمات؟ كلّ شيءٍ يغدو تافهاً أمام سلطة الغياب. كيف يتعافى المرء من لوعة الرحيل؟ بالنسيان؟ بالكتابة؟ بالزمن؟ بالموت؟ الحقيقة أنّنا لا نشفى من الرحيل. لا تستطيع سيرورة اليوميّ أنْ تأخذنا دائماً وتُنسينا عذابنا وجُرحنا.

استيقظت هذا الصباح في الرابعة صباحاً. الليل ما يزال في حلكته. هواء بارد أحسّه يتسلّل من الحديقة، ثم عبر النافذة يدخل غير مُكترث لي. مذ كُنت صغيراً، تعودت على الاستيقاظ باكراً. الكتب مُكدّسة على المكتب في انتظار القراءة والتأمّل. الليل يبدو هادئاً كعادته. أحبّ هذا الوقت من اليوم. إنّه الوقت المُفضّل لقراءة الأعمال الشعرية الكبيرة. قراءة تفتح شهيتي طوال اليوم لقراءة أعمال نقدية وغيرها. إنّ الليل خزّان أسرار. إذا أنتَ صالحتَ الذي فيك، يهديك سرّه ويُتوّجك على عرشه إلى الأبد. لكنْ إذا ضاع منكّ مرّة واحدة، فقدته إلى الأبد.

أين تلك الأعمال الشعرية والروائية والتاريخية والفكرية التي قرأتها ذات ليلٍ بعيد وأنا أحلم بمُستقبل أفضل لي. ففي أيام الطفولة والصبا. كُنت أعتقد أنه في سنّ الـ 30 سأكون وسط باريس، مُلتحماً بالوسط الثقافي. أسماء كبيرة حلمت أنْ ألتقي بها. كُنت أراني وسط صالات سينما وبين موائد المقاهي ورفوف المكتبات. الثقافة الفرنسية كانت وماتزال الأقرب إلى قلبي منها إلى العربية. يستغرب أصدقاء من كوني لا أكتب بالفرنسية رغم عشقي لها. كيف أقنعهم بأنّي عربيّ الهوى وأنّ الفرنسية بالنسبة لي مجرّد لغة تُدخلني من باب حداثة ثقافية حلمت بها وأنا صغير.

كيف أقوى على العيش داخل جيلٍ ليس جيلي؟ لقد أحببت جيل السبعينيات وآمنت به سينمائياً وشعرياً وفكرياً وروائياً. علاقتي الشخصية خلال الجامعة توطّدت برواد هذا الجيل. أصبحت ألتقيهم بالمقاهي والحانات والمكتبات والمهرجانات واللقاءات الثقافيّة. خيطٌ مُضيء بدأ يشتبك بينننا. اعترافات صادقة بقُدرتي على القراءة والكتابة من أعلام ثقافيّة أحبها. لكنّي لم أعد ذلك الشاب الذي طالما أحبّ الجلوس في المقاهي للقراءة والحلم والكتابة والاستمتاع بقطرات المطر وهي تتدحرج على الرصيف في فصل الخريف. لم يكُن يعتقد وهو طفل أنّ شبابه سيكون خريفاً قاحلاً ببلده. يحلم أنْ يُسافر بقوّة ويحمل في قلبه شغف جدّته في الاستماع والحكي والتعرّف على الناس. كلّ شيء في حياته ارتبط بالثقافة. أحبّ الكتابة إلى درجة الموت. يتذكر الآن صراخ جدّته في الليالي الباردة، وهي تدعوه إلى أنْ ينام. لكنّها كانت تُحسّ بحرقة جسده أمام الليل، وهو سادر في مكانه أمام كتبه وأوراقه لساعات، وقلبه مُتوهّج بنار الكتابة.

تحرير من طرف أشرف الحساني
في 24/10/2023 على الساعة 17:00, تحديث بتاريخ 24/10/2023 على الساعة 17:00