وإنْ كان صاحب فيلم « البحر من ورائكم » في روايته الرابعة « مفعول الشيطان » يتجاوز حدود الواقع بكلّ حمولاته السياسيّة وميثولوجياته الاجتماعية، صوب أفكار ميتافيزيقية مُختلفة. غير أنّ الميتافيزيقي هنا، يحضر باعتباره أداة تدين الواقع وتكشف عن أعطابه وتصدّعاته. بل إنّ النصّ يُعدّ بمثابة سفرٍ فلسفي يطرح أسئلة حول الدين والوجود والسلطة والميتافيزيقا في علاقتها بالواقع الفيزيقي الذي ننتمي إليه. فهذا العُمق الفكري الذي تُطالعنا به « مفعول الشيطان » لا نعثر عليه حتّى عند كُتّاب معروفون بالكتابة الرواية ومُتخيّلها. وذلك في قالب حوار يمزج بيت الواقعي والتخييلي، بين ملائكة اليمين والشمال الذي يعملون على تسجيل حسنات وسيئات الإنسان في الوجود.
لقد عمد هشام العسري إلى نفسٍ روائيّ صعب، لا يطرق باب الواقع بطريقة فجّة ومُباشرة يُصبح فيها النصّ تدريباً إنشائياً، بقدر ما ينظر إلى الواقع بعينٍ ميتافيزيقية ما ورائية تسعى جاهدة إلى الإمساك بتفاصيل الملَكين منير وحكيم، عاملاً على إعطائهما صفاة بشرية آدمية، وذلك بهدف تقديم رؤية « أكثر إنسانية للموروث الديني، وتمثل ظواهر بشرية صرفة في مملكة السماء من جهة، والنّظر إلى أحوال الآدميين بغيرية ملائكية قصوى تقتفي أثر الإنسانية بتعقيدها المازج بين اليأس والأمل، التعاطف حدّ التماهي، والأنانية المفضية إلى الخذلان من جهةٍ ثانية، قبل أنْ يلتقي المنحيان في معضلةٍ نهائية تضع الجبن المتواري وراء الواجب المهني في كفّة والتسامي على الشرط الملائكي/الإنساني في كفّة ثانية » حسب كلمة المُترجم.
على مدار 3 أيام في الأسبوع (الاثنين، الأربعاء، الجمعة) يهديكم موقع le360 سلسلة خاصّة مُركّزة ومختارة بعنايةٍ من رواية « مفعول الشيطان » للكاتب والمخرج هشام العسري، والمُترجمة حديثاً من اللغة الفرنسيّة إلى العربيّة من طرف كلّ من سعيد المزواري وهوفيك حبشيان:
المقطع 8:
الشمس في أوجها، والنهار في ذروته، هدوء غير عادي يخدّر هشام وملكَيه. تتوقف الكلمات عن الطقطقة بينهما، تستبدلها الطيور بتغريدات تطفو في الهواء محمولةً فوق نسمات رقيقة ومجانية...
حتى الشاحنات المنفعلة التي تمر عادةً على الطريق السريع تبدو أقل إرعاباً، حين تحرّك الهواء برواء وإحساس رائع بالإيقاع. يعزف الطريق السريع مقطوعة موسيقية تختلط فيها الآلات الكبرى والصغرى.
لحظة مثالية تجمّد الزمن وسط أبخرة اللامبالاة والاسترخاء، ما يلبث هشام حتى يشعر وسطها بعودة الإرهاق الناجم عن حصة النكاح الصباحي. يتخلى عنه جسده بلطف، وينسدل جفناه برفق فوق عينيه ليريحاهما من الضوء الساطع الذي يرتدّ في كل مكان، مطارداً مساحات الظل.
يسترخي حكيم ومنير، يتخلّيان عن الهالات، ويجلسان على كتفيّ هشام الذي يشرع في نطح الهواء محاولاً مقاومة غزو أشعة الشمس...
حكيم: ماذا يحدث؟
منير: ارتطام الإعياء!
حكيم: ماذا؟
منير: إرهاق مفاجئ...
حكيم: لماذا هو مرهق... لم يفعل شيئًا مفيداً منذ الصباح!
منير: أيها الكولخوزي الصغير... ليست الوظيفة ما يُتعب... إنها تلك اللحظة حيث تتحول أرجل أبناء آدم الذكور إلى سباغيتي بالماء الساخن...
حكيم: ماذا تقصد؟
منير: يا إلهي... كم تفتقر للحس الشّعري... إنهم يرتخون...
حكيم: لماذا؟
منير: عندما تبدأ الخصيتان في صنع الحيوانات المنوية من جديد...
حكيم: ما الصّلة؟
منير: بعد القذف بإثنتي عشرة ساعة... يتعيّن على الجسم أن يصنع حيوانات منوية جديدة... فيحشد لذلك معظم موارد الجسم... يستحسن أن يكون الحمّال نائماً في هذه الأثناء... وإلا سينهكه الأمر!
حكيم: لكن لم تمر اثنتي عشرة ساعة منذ صباح اليوم!
منير: لقد مارس الجنس أمس أيضا... لهذا السبب هو في حالة يرثى لها، ينقر الفراغ مثل دجاجة أو متخلّف عقلي... انظر إليه... اللحم حزينٌ ورائع في نفس الوقت...
ينظر حكيم ومنير إلى هشام النائم وذقنه مثبتّة على صدره. يمسك منير جلد ذقنه أسفل العنق، ويحاول شد شعر اللحية تحت أنظار حكيم الذي يظلّ متراجعاً ومذهولًا...
حكيم: ماذا تفعل؟
منير: لا شيء... أزعج نومه لأجعله يحلم...
حكيم: لماذا؟
منير: كي يمتلئ نومه بحلمٍ سعيد...
حكيم: لماذا؟
منير: هذا أفضل من نوم أعمى...
حكيم: بأي معنى؟
منير: انتظر... سأنتهي وأشرح لك... لم أتحدث في حياتي كما تحدثت منذ هذا الصباح... لطفي كان غبيًا، لكنني أحنّ إلى برودة طبعه...
حكيم: آسف إن خيبت آمالك!
منير: السخرية، أحسنت!
ينهمك لبضع دقائق في شد شعر لحية هشام وعجن جلده، ولطم خديه وجرّ رموش عينيه... بقصد إزعاج نومه الذي يبدو عميقا جدا.
يبدأ هشام بالشخير، بينما ينزلق خيط من سيل اللعاب من زاوية فمه...
يغسل منير يديه في سيل اللعاب المنسكب أمامه في نوع من الانشراح. ينظر إليه حكيم بإشفاق.
منير: ها أنا ذا... خلافًا لك أنت يا من تعتبر نفسك في مهمّة... يتوجب عليك الوفاء بها بأي ثمن قبل الانتقال إلى المستوى الإداري الموالي... أحاول أن أتصرف مثل راعٍ...وأرفع قليلاً من همّة صاحبنا، ضمن حدود القانون الإلهي، كي أجعل منه إنسانًا أفضل... أو على الأقل إنسانًا باهتاً مع أشياء أكثر إثارة للاهتمام في رأسه...
حكيم: لكنه لا يحلم إلا بممارسة الجنس مع أي شيء يتحرك!
منير: لا، لو كنتَ أكثر تفهّماً... وأقل ستالينيةً... ستدرك أنه يتوارى في نكح كل ما يجده جَسراً لهوّته الميتافيزيقية... آخرون يملأونها بالطعام أو بتديّن أصولي... وهو يملأها بإفراغ حقينته السفلى حيثما يجد...
حكيم: أولاً، أنفي ما اتهمتني به... لست شيوعيًا... ثانياً، لا أفهم ما تريد أن تفعله مع هذا الحمّال... لا أعرف حتى إذا كان لديك الحق في فعل ذلك... التدخل في الشؤون الدنيوية محرم علينا!
منير: كن حذرا، أنت مذعن أكثر من اللازم... لن تحقّق أي شيء بخضوعك هذا... إنها خطة سيئة... عليك أن ترفع رأسك وتنظر قليلا إلى النجوم... وإلا فانسَ جنون العظمة الذي ينتابك بالجلوس على يمين الزعيم... لن يقبل الرب عقلًا ضيقًا لا يربطه أي اتصال عميق مع الكون... لا يكفي أن تقوم بعملك بضمير وفطنة... أنت لست مسؤول ضرائب أو شرطي مرور... عليك أن تلتحم بأسمى ما يمنحه الوجود... وأحيانًا، أن تتقبّل بمنتهى الرضى، بقبح ما يقدّمه لك... من دون أن تستاء... أو تلعب دور مثقّف الصالونات... أو دور العقول الحساسة المنزعجة من رائحة البراز الفكري المنبعثة من هذا الوجود المادي... باختصار... يلزمك قليل من الرّفعة... وإلا، فانسَ حلم الصعود... لن تتجاوز القبّة الزجاجية أبدًا...
حكيم: ليست هناك قبّة زجاجية!
منير: بلى، إلا أن لا أحد سيُفتي بوجودها أو بعدمه، حتى لا يثني أو يشجع أحداً... الجنة ينبغي أن تُستحقّ... بالنسبة للجميع!
حكيم: لا أصدّقك...
منير: أنت حر... جيد أن تكون طموحًا إذا كان الطموح يخدم شيئًا آخر غير هدفك الخاص... أنت تعرف ما يقال: التفكير المقتصر على الإنجازات المادية يترجم فقر الطموح... لا تكن طموحًا... لا تدس أجساد بني آدم كي تصل... إنهم فريسة سهلة للغاية... النّزال غير متكافئ... المباراة مغشوشة منذ البدء... لا فرصة لديهم للربح... ويوم الساعة... سيسعى كل نبي لأن يشفع في أمته... وكما هو الحال عند مغادرة الحضانة، سيأخذ كل نبي قومه ليذهب بهم إلى مكان آخر... إلى الجنة أو غيرها... لهذا السبب يجب ألا يفاقم وجودنا على الأرض من عنف هذا العالم غير المضياف أصلاً...
حكيم: هل تحاول أن تغسل دماغي؟
منير: لماذا؟ هل هي متّسخة؟
حكيم: لا تلعب بالكلمات... يبدو لي أن لديك خطة ما، بروتوكول تحاول تطبيقه عليّ...
منير: أبداً!
حكيم: هل أنت متأكد من أنها ليست محاكاة وظيفية... وأن الاختبار ما يزال مستمراً...؟
منير: آه! أُصبتَ بالبارانويا الآن... هذا تطور ملموس...
حكيم: كفّ عن التّلاعب بي!
منير: لا أتلاعب بك البتّة... لدي عاطفة خاصة تجاهك... تبدو مصمّماً، وتائهاً قليلاً في الآن ذاته... هذا التناقض مثير... ينبغي ألا نحارب الشك... بل أن نستخدمه كسماد ننمّي بفضله الحقيقة... هل تفهم؟ أنا لست عدوك... ولا صديقك حتى الآن... أنا مجرد زميل متخلِّص من الوهم يتحفّز بملاقاة ملاكٍ طموح مثلك... ثمّة شيء شيطاني داخلك يا صغيري!
حكيم: تدنيس للمقدّسات!
منير: أنا لست مصاص دماء، توقف عن تصويب كلماتك التصريحية نحوي وكأنها ظلّ صليب... أو ماء مقدس... هذا مجرد فولكلور... لا نغيّر أفكار الآخرين بأن نصرح عكسها بصوت أعلى... ثم أنا لا أجدّف... أقوم فقط بتنشيط خيالي...
حكيم: توقف عن تجريب ذلك عليّ... أنت تتعب أعصابي!
منير: انتبه لما تقول... هالتك على المحكّ...
صمت مخاطيّ يلفّ الملَكين. توارت الشمس قليلاً، ولم يعد الجوّ مثالياً كما كان، خصوصاً مع تسرّب زئير شاحنات الوزن الثقيل الذي يصم الآذان قادماً من الطريق السريع، ممزوجاً بالموسيقى المقرفة المنبعثة من مكبرات صوت الكافتيريا.
هشام لا يزال نائما. يسيل لعابه فوق لحيته المشذبّة ويقطر على قميصه.
منير: أعتقد أن الخصيتين قد امتلأتا... يمكننا الرّجوع إلى الحياة مجدّداً!
يدنو منير من هشام، ويوجه له صفعه تنتزعه من نومه. ينظر هشام حوله بعينين يحجبهما التعب. يحتاج إلى بضع ثوانٍ لتنزيل جميع التطبيقات التي تمكّنه من الاشتغال في العالم المادي. يلمس ذقنه، ويمطّ شفتيه حين يكتشف أثر اللعاب على قميصه...
منير: هل تعرف النكتة التي تُروى عن الجنّة؟
حكيم: لا تجدّف!