وإنْ كان صاحب فيلم « البحر من ورائكم » في روايته الرابعة « مفعول الشيطان » يتجاوز حدود الواقع بكلّ حمولاته السياسيّة وميثولوجياته الاجتماعية، صوب أفكار ميتافيزيقية مُختلفة. غير أنّ الميتافيزيقي هنا، يحضر باعتباره أداة تدين الواقع وتكشف عن أعطابه وتصدّعاته. بل إنّ النصّ يُعدّ بمثابة سفرٍ فلسفي يطرح أسئلة حول الدين والوجود والسلطة والميتافيزيقا في علاقتها بالواقع الفيزيقي الذي ننتمي إليه. فهذا العُمق الفكري الذي تُطالعنا به « مفعول الشيطان » لا نعثر عليه حتّى عند كُتّاب معروفون بالكتابة الرواية ومُتخيّلها. وذلك في قالب حوار يمزج بيت الواقعي والتخييلي، بين ملائكة اليمين والشمال الذي يعملون على تسجيل حسنات وسيئات الإنسان في الوجود.
لقد عمد هشام العسري إلى نفسٍ روائيّ صعب، لا يطرق باب الواقع بطريقة فجّة ومُباشرة يُصبح فيها النصّ تدريباً إنشائياً، بقدر ما ينظر إلى الواقع بعينٍ ميتافيزيقية ما ورائية تسعى جاهدة إلى الإمساك بتفاصيل الملَكين منير وحكيم، عاملاً على إعطائهما صفاة بشرية آدمية، وذلك بهدف تقديم رؤية « أكثر إنسانية للموروث الديني، وتمثل ظواهر بشرية صرفة في مملكة السماء من جهة، والنّظر إلى أحوال الآدميين بغيرية ملائكية قصوى تقتفي أثر الإنسانية بتعقيدها المازج بين اليأس والأمل، التعاطف حدّ التماهي، والأنانية المفضية إلى الخذلان من جهةٍ ثانية، قبل أنْ يلتقي المنحيان في معضلةٍ نهائية تضع الجبن المتواري وراء الواجب المهني في كفّة والتسامي على الشرط الملائكي/الإنساني في كفّة ثانية » حسب كلمة المُترجم.
على مدار 3 أيام في الأسبوع (الاثنين، الأربعاء، الجمعة) يهديكم موقع le360 سلسلة خاصّة مُركّزة ومختارة بعنايةٍ من رواية « مفعول الشيطان » للكاتب والمخرج هشام العسري، والمُترجمة حديثاً من اللغة الفرنسيّة إلى العربيّة من طرف كلّ من سعيد المزواري وهوفيك حبشيان:
المقطع 10:
يركن هشام سيارته ويتقدم في ضيق نحو مبنى مهيب، بواجهة زجاجية تفجر أشعة الشمس في كل الأوقات ونحو كل الاتجاهات. يرنّ الهاتف في جيبه. رنينٌ قلق ومستعجل. يلتحق هشام برجل مستدير الشكل في مكتب كبير ومستطيل. يمدّ هشام يده لمصافحة المسؤول الضريبي، عارضاً أفضل ابتسامة في حوزته. رأس المسؤول المستدير مزيّن بخدّين دائريين، عينين مستديرتين، فمٍ كمؤخرة دجاجة، وذقنٍ يحاكي شكل الهلال... ذقنٌ مزدوج يعطي الانطباع بأن رأسه كرة بولينغ موضوعة على تمثال لبوذا، تخنقه ربطة عنق مبتذلة، وبدلة تتموّج خطوطها مثل حمار وحشي في صورة رقمية. ينظر بوذا بتوبيخٍ إلى هشام الذي يتهاوى في المقعد المقابل للمكتب.
هشام: آسف على التأخير... الطريق السيار كان مزدحمًا!
بوذا: ألست من الدار البيضاء؟
هشام: بلى... لكن كانت لديّ مهمة عاجلة أقضيها في العاصمة!
بوذا: لا بأس إذن...
هشام: أخبرني... هل تمّت العملية؟
بوذا: الأمر ليس بهذه السهولة!
هشام: هل ينبغي أن أقلق!
بوذا: آه! بلا عواطف جياشة، صديقي العزيز... كل ما هنالك أن الأمر كان أكثر تعقيدًا مما توقعت... لقد جعلت المعلوميات منه تحدياً حقيقياً...
هشام: هل ستتمّ المهمّة رغم الصعوبات؟
بوذا: آمل ذلك!
هشام: لا، آسف... أنا بحاجة إلى إجابة واضحة... أجازف بالكثير في هذه المهمّة...
ينهض بوذا كي يغلق الباب، متدحرجاً على رجلي دحداحٍ، وفاركاً أصابعه السّمينة. يحتاج إلى المزيد من الخصوصية...
بوذا: كما تعلم، أنا أخاطر أكثر منك...
هشام: أتنوي طلب المزيد من المال؟
ينسج صمت رقيقٌ بينهما رقعةً بدقّة الدانتيل المصنوع يدويًا. تدور العيون في المقلات كما في حوار مافيا من فيلم صامت. هشام لا يبدو مطمئنًا، يخشى الوقوع في فخّ.
هشام: كم؟
بوذا: ليس كثيراً!
هشام: كم؟
بوذا: كان علي أن أستنجد بشاب في قسم المعلوميات من أجل محو السوابق...
هشام: قلت لك « كم »؟
بوذا: 5000 إضافية!
يتنهّد هشام من التعب والارتياح. لقد كان يتوقع ابتزازًا أكثر جرأة، لكن المسؤول الصغير المستدير، ذا النّظرة المرحة وراء النظارات المستديرة، يفتقر إلى الفحولة. هذا جليّ. متخفٍّ آخر في دواليب الإدارة لا يحرّكه شيء سوى الاغتناء. طفيلي. بعرةٌ مستديرة لمعزة أو خروف. يفتح فمه على شكل مؤخرة دجاجة - مشهد مروّع - حيث تبرز أسنان قزمية يصلها خداع بصري بعمق حلقه. ابتسامةٌ يبدو كأنّه يتبرّع بها مجاناً لهشام.
هشام: لا مشكلة...
بوذا: ممتاز!
هشام: هل هذا كل شيء؟
بوذا: طبعًا. لقد تكلّفت بكل شيء... يكفي أن تقوم بتحويل كل أموالك من حسابك القديم إلى حساب جديد... وسيكون أفضل إذا استطعت أن تنشئ الحساب الجديد باسم زوجتك...
هشام: ليس زوجتي...
بوذا: لماذا؟
هشام: لا أثق بها...
بوذا: والدتك إذن... إنهنّ في النهاية الوحيدات اللواتي لا يبحثن عن تصفيتنا... أمّهاتنا الغاليات...
هشام: أمي، هذا ممكن!
بوذا: في الأسبوع القادم ستتوصّل بالوثيقة التي تقول أنك قد سوّيت وضعيتك مع الضرائب...
هشام: سيُمحى كل شيء؟
بوذا: تمامًا... السّنوات العشر التي تهرّبت فيها من الضرائب سيتم نسيانها... مسحها... طمسها...
هشام: ممتاز... أريد أن أباشر مشروعاً جديداً، ويجب أن أكون في وضعية قانونية مع الضرائب...
بوذا: تمّ ذلك... باشر ما تشاء... أنت رجلٌ حر!
هشام: سأستطيع أن أنام في سلام هذه الليلة أخيراً!
بوذا: لكن، نصيحة منّي لك، لا تتأخر في مسألة إفراغ حسابك... إنه الأثر الوحيد المتبقي من ماضيك الضريبي...
هشام: سأقوم بذلك هذا الأسبوع...
بوذا: ليس هذا الأسبوع... بمجرد أن تغادر هنا عليك أن تقوم بغلق حسابك، وتخبّئ مدخراتك في جوربٍ، أو شيء آخر، في انتظار فتح حساب جديد... ينبغي أن تخفي سجلّك الضريبي... هكذا، لا أحد فينا سيعاني من أي ارتدادات غير سارة!
هشام: أنا أثق بك!
بوذا: وأنا أيضًا!
هشام: وماذا عن الشاب؟
بوذا: أي شاب؟
هشام: مستخدم الحواسيب!
بوذا: آه! إنه تلميذي... تحت سيطرتي الكاملة!
هشام: لا تثق أبداً برجلٍ يبالغ في الخنوع...
بوذا: ...وإلا ستتلقّى طعنة في الظهر!
هشام: بالضبط!
بوذا: أعرف القصّة!
يقف هشام، يلمس سترته ويخرج رزمة من الأوراق النقدية يضعها أمام أعين بوذا الجشعة، ثم يضيف رزمة أخرى أصغر. كلا الرجلين متوتّر ومرتابٌ وقلق...
حكيم: هل أسجّل شيئاً؟
منير: لا أدري!
حكيم: هذا فساد، أليس كذلك؟
منير: لا أعلم...
حكيم: أرجوك... أصدقني القول...
منير: لا أعرف...
حكيم: إنه يعطي مالاً لمسؤول حكومي بغية إخفاء بيانات تدينه قانونياً... هذه خدمة غير مشروعة مدفوعة الأجر... رشوة...
منير: نعم...
حكيم: إذن سيّئة...
منير: نعم، ولكن... هناك دائما « لكن »... إذا قلت لك: أن بالإحجام عن دفع الضرائب لدولة فاسدة... الأشياء تتحايد... ما عساك تجيب؟
حكيم: هذا فساد مضاعف!
منير: لا، فسادٌ على فساد، يلغيان بعضهما البعض...
حكيم: كيف ذلك؟
منير: (-) زائد (-) يساوي (+) والعكس صحيح... هل تجيد الرياضيات؟
حكيم: ما هذه النظرية الفاشلة... ما ينطبق على الرياضيات لا ينطبق بالضرورة على الرشاوى!
منير: لماذا؟
حكيم: لأن ذلك مستبعد...
منير: خيالي؟
حكيم: عبثي...!
منير: حمّالنا لا يريد التبرع بأموال جناها بشق الأنفس لمجموعة من الموظفين الفاشلين والطفيليات كي يقوموا باختلاسها وتبديدها...
حكيم: سيثور عليهم؟
منير: أتدري ما يقوله لوسيان ريباتيه في ذلك؟ « كل الثّورات غبية! »
حكيم: لكن هذه ليست مشكلتي... أنا فقط مسؤول عن تدوين سيئات الحمّال!
منير: أنت تخيّب ظني... كيف... هذه ليست مشكلتك؟
حكيم: كما سمعت، أنا لست قاضياً، أنا ملاك فقط!
منير: أحمق، الملاك أقوى من أيّ قاض...
حكيم: كفّ عن إرباكي...
منير: لا، أبداً، أريد مساعدتك في مهمتك... لكن، تعرف ماذا... لن أوقفك إذا أردتَ أن تدوّن ما رأيته بمثابة سيّئة... إنها ليست مشكلتي حتى!
يسيطر التّردد على حكيم، فتتكوّن تجاعيد على جبينه المرمري. يرفع يده كي يسجل السيئة على لوحته الإلكترونية الجديدة...
منير: لكن اعلم أن ما تكتبه لا يمكنك محوه أبداً!
تردّدٌ رهيب ينتاب حكيم الذي ينظر إليه بعينين مثقلتين بقلق بالغ...
حكيم: ماذا أفعل في نظرك إذن؟
منير: لاشيء... إعطاء الرّشوة لموظف دولة فاسدة ليس عملاً سيئاً...
حكيم: هل هذا يعتبر حسنة؟
منير: لا تبالغ!
حكيم: ما هو إذن؟
منير: قليل من العدالة في هذا العالم القذر!
حكيم: « العدالة »؟! هل أنت متأكد؟
منير: لست متأكداً من شيء أبدا... ولا تصدّق قطّ من يطلب منك أن تثق به...
حكيم: أيّ حضارة هاته؟
منير: هل تعرف قصة المهاتما؟
حكيم: من؟
منير: غاندي، الزاهد العرياني...
حكيم: اه، كلّا! لا أعرف قصصاً عن زاهدين، ناهيك عن المتعرّين...
منير: لا يهمّ. يسأله أحدهم: « ما رأيك في حضارة الغرب؟ » هل تعرف كيف يجيب، هذا الأحمق؟
حكيم: لا!
منير: أنّها ستكون فكرة جيدة... هاهاها!
ينهال شلّال من الضحك على الديكور بينما يعدّ بوذا ماله تحت نظرات هشام المتوجّسة.
تكتمل الصّفقة ويختفي هشام.
بوذا: اذهب مباشرة إلى البنك...
لديه ساعة لإتمام القضية. يتعرج عبر شوارع المدينة، بين سائقين مبطئين في سياراتهم المقتناة بواسطة قروض بنكية، وصبيان التّوصيل الكاميكازيين فوق دراجات نارية مصنوعة في الصين. يسعى لتشغيل بعض الموسيقى فيقع صدفة على موجة لوكس راديو، وسط مارشميلو الأغاني الملتصقة بباطن القدم، واستعادات كلاسيكيات الروك بنكهة ليكسوميل. يفسح المجال لغدده كي تغفو على إيقاع النوتات المرتخية، والأصوات المرقّقة التي تمطّ النغمات بهدف شغل أكبر حيّزٍ ممكنٍ من زمن الإصغاء المتاح...
حكيم: لديّ سؤال، هل يعتبر كسر الإضراب سيئة؟
ينتزع منير نفسه من فتورها لينظر إلى حكيم بعيون مستديرة، كما لو أنّ بوذا قد أعداه. تشرع الابتسامة في الطفو على محياه، مثل فقاعة هواء أو ضرطة تحت الماء...
منير: ما الدّاعي إلى سؤالك هذا؟
حكيم: اه... هكذا فقط... فكرت في ذلك وأردت أن أعرف رأيك...
منير: أنت لا تعرف شيئًا، ولا حتى غاندي، وتأتي الآن لتسأل عن الإضرابات... بصراحة، ستتسبب لي في القرحة...
حكيم: لكن، ليس لدينا معدة أصلاً...
منير: لا تجادل... إنها مجرد صورة... طريقة للكلام...
حكيم: حسناً، ولكن ما رأيك؟
منير: كاسر الإضرابات هو سكاب!
حكيم: هو ماذا؟
منير: بالعامية الإنجليزية هذا يعني براز!
حكيم: ولكن أن تكون خرائياً، هل هذه سيئة؟
منير: الأمر مرتبط برائحة الغائط المقصود...