هذا وتُشير العدالة الانتقالية حسب الندوة إلى كيفية استجابة المجتمعات لإرث الانتهاكات الجسيمة والصارخة لحقوق الإنسان، وهي تطرح بعضاً من أشد الأسئلة صعوبة إن في القانون أو السياسة أو العلوم الاجتماعية وتهتم بمراحل الانتقال السياسي في بلد معين بعد فترة من النزاعات والصراعات انتهكت فيها حقوق الإنسان. وتعتبر في هذا السياق آلية لمحاولة إحلال السلم وتطبيق أشكال من العدالة، ملائمة لمراحل الانتقال في حياة النظام السياسي والمجتمعي.
وتُعني العدالة الانتقالية، أوّلاً، بضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، قبل أي اعتبار آخر. حيث يتمثل ذلك في موضوع التدابير والإجراءات الرامية إلى إصلاح ما لحق بضحايا انتهاكات حقوق الإنسان من أضرار، في مرحلة شكل فيها العنف السياسي أحد الآليات الملازمة لنشأة وتطوّر واستمرارية الدول، كنمط من أنماط القمع وكوسيلة من وسائل تدبير الشؤون العامّة في مرحلة معيّنة، حتى أنه يصعب الحديث عن جماعة سياسية دون أن يتم ربطها بالعنف.
وحسب توطئة الندوة فإنّ هيئة الانصاف والمصالحة «تُشكّل تعبيراً صريحاً عن الإرادة السياسيّة للدولة وتأكيداً للمقدمات الأساسية للمسار المفضي إلى العدالة الانتقالية الذي عرفه المغرب في تسعينيات القرن الماضي، والذي تجلّى في كشف مصير المختفين وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين إلى المغرب وتكليف المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بتتبع تنفيذ ملفات الضحايا، وقد شكل هذا الاختيار حلقة في مشروع متكامل يتوخّي توسيع فضاء الحريات في المغرب واصلاح التشريعات بشكل يتلاءم مع التزام المغرب بالاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي صادق عليها، وتطوير الآليات لدعم التربية على حقوق الإنسان وبناء علاقات جديدة بين الدولة والمواطن».
استهّل الدكتور محمّد العزري أستاذ التاريخ بكلية بن امسيك مادخلته التي حملت عنوان «العنف السياسي في تاريخ المغرب» بحث اعتبر أنّ موضوع العنف حاضرٌ بكلّ أبعاده الفلسفية في كلّ العصور ويطرح أبعاداً اجتماعية ونفسية، بعدما حاولت بعض الكتابات الأجنبية تحليل العنف وفهمه، رغم أنّ ذلك لم يمنع الكيانات السياسية من بناء دولة الحقّ والقانون. واعتبر أنّ العدالة الانتقالية تجربة ناجحة في المغرب، ما جعل الفكر الدستوري يتدرّج وتبرز من خلاله العدالة الانتقالية التي يُعدّ طيّ صفحة الماضي أحد أبرز ما يُميّز هذه التجربة. ويرى العزري أنّه حين نتحدّث عن العدالة الانتقالية تُطرح مسألة النخبة التي يعتبرها أساس بناء كل تحوّل ديمقراطي، فهي التي تقوم بتوعية المجتمعات وتحثّهم على الانخراط في قضايا الشأن العام، وبالتالي، فإنّ خروج المثقفون من الفضاءات العمومية ساهم في تأزيم الإشادة بأهميّة هذه الموضوعات داخل المجال التداولي العام.
أما الدكتور خالد أوعسو، فقد انصبّت مداخلته حول قراءة في تجربة هيئة الانصاف والمصالحة من زاوية التاريخ الراهن، مُعتبراً أنّ فهم الماضي يقوم على الواقع، فالمُؤرّخ له القُدرة على فهم طبيعة هذه التحوّلات التي شهدها المغرب وإعطاء رأي في الموضوع، واعتبر أو عسو أنّ الهيئة أظهرت نجاعة في بناء الوعي التاريخي وأسّست رؤية قويّة تقوم على الانتقال من التدبير والتقرير إلى التفكير، وهذا السرّ ساهم في تمييز تجربة هيئة الانصاف والمصالحة عن تجارب في بلدان أخرى. واعتبر اوعسو أنّ الكتابات حول الهيئة تختلف بتعدّد الفاعلين واختلاف الآراء وأغلبها مرتبط بالظرفية المشحونة، لهذا رأى أنّ مسألة العنف مسؤولية اجتماعية مشتركة.
أما مداخلة الدكتور محمد السعدي، فقد انصبّت حول العدالة الانتقالية من خلال مقاربة النوع، فقد اعتبر أنّه منذ عامين أصبحت مقاربة النوع مُدمجة في تجارب لجان الحقيقة، وهي تروم الكشف عن كلّ أنواع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تعرضت لها النساء خلال فترات الصراع. ورصد الباحث مختلف الأضرار المادية والمعنوية والنفسية التي لحقتهن من جرائها والأدوار التي قُمن بها للتصدي لهذه الانتهاكات، خاصّة وأنّ النساء في نظره هن أكثر الفئات تضرّراً من الصراعات السياسية في فترات النزاع. بينما تطرقت مداخلتي كلّ من عبد السلام بوطيب وعبد الحق مصدق لطرق حفظ الذاكرة الجماعية وضمان عدم التكرار، ثمّ دور المجلس الوطني لحقوق الإنسان في تتبّع تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة.