اختيار الثقافة كأفق سياسي لتحقيق نهضة اقتصادية أمرٌ جديد نسبياً مقارنة بين علاقة الثقافة بالمجتمع. ففي سبعينيات القرن الماضي، لم يكُن مطروحاً داخل الساحة الثقافية هذا المفهوم الذي ينظر إلى الثقافة من وجهة نظر اقتصادية تُساعد الأفراد على تحقيق نظام عيش مختلف، أيْ أنّ الثقافة ليست « ملحة فوق طعام » ولكنّها تحتلّ مكانة مركزيّة أصيلة في أجندات الدول والحكومات. بهذا المعنى تغدو الثقافة بمفهومها الأنثروبولوجي المُركّب، آلية من آليات تحديث المجتمع وعنصراً قوياً في إبراز الثراء الحضاري الذي يزخر به المغرب. وإذا كانت الثقافة في علاقتها بالاقتصاد غير مطروحة لدى الجيل السبعيني، لأنّ الأهم كان لدى المثقفين هو ضرورة أنْ تخترق المجتمع وتكون ذات نفس حداثي قويّ يُحرّر الواقع من سُلطة التقليد والرجعية. وذلك لأنّ طبيعة الثقافة التي كانت سائدة منذ منتصف ستينيات القرن العشرين تقليدية وذات بعد وطني. فلا غرابة أنْ تظهر بعض الكتابات الفكرية بسيطة في طروحاتها وغير قادرة على نقل المجتمع من طور التقليد إلى الحداثة.
لكنْ مع المد اليساري الذي اجتاح الأجساد والأفكار والأمزجة بأن السبعينيات، سيلعب اليسار دوراً بارزاً في تنشيط الحياة الثقافية ونقلها إلى أفق آخر تدين فيه التقليد. من ثمّ، بدأت ولأوّل مرّة لقاءات داخل أحزاب سياسية وتكتلات المجتمع المدني تُنظّم ندوات ولقاءات ومناظرات حول الثقافة في علاقتها بالمجتمع. وذلك لأنّ الثقافة كانت بالنسبة لليسار في مقدّمة برنامجه السياسي ويؤمن بها إيماناً قوياً ما دام يُدافع ويجهر بضرورة الدخول للحداثة ومحاربة مختلف أنواع التقليد الذي كانت تُكرّسه الأحزاب اليمينية. قام اليسار بتزويد الثقافة بمختلف آليات النقد وتفكيك ميكانيزمات اللامفكّر فيه داخل هذه الثقافة، حيث تم التطرّق لموضوعات حساسة كانت المؤسسة الرسمية تجد فيها امتداداً للنظرة السياسية. هذا التأثير لم يقتصر على المغرب بل امتدّ على طول البلاد العربيّة واكتسح كافّة المعمور لتصبح معها الثقافة أداة من أدوات السياسي يستعملها في مخاطبة الرأي العام.
اختيار السياسي للثقافة سابقاً، لم يكُن إيماناً منه بالثقافة نفسها، وإنّما بسبب دورها وقيمتها داخل المجتمع، فهي تزرع الضوء في نفوس الناس وتجعلهم يفتحون عيونهم على ما كان يعيشه البلد سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. اليوم حين ننظر إلى الثقافة، لا ينبغي إفراغها من القيم اليسارية التي أسسها مثقفون ناضلوا حتّى تصبح ثقافتنا حداثية. بل حتّى وإنْ نظرنا إليها كقاطرة اقتصادية ينبغي أنْ تكون ثقافة حقيقية وأصيلة تُبلور المشروع السياسي وليس مجرّد ترفيه. الثقافة الأصيلة حين تُقدّم للناس، فإنّها تنعكس على حياتهم وأفكارهم ومسارهم.