في اللقاء الذي استهله الحسين أزدوك، تحدّث رئيس جامعة الحسن الثاني بالدارالبيضاء عن أهمية هذا اللقاء، لكونه يجمع بين فنون مُختلفة من القول والتعبير، مُعبّراً عن محبّته إلى مثل هذه اللقاءات الفنّية، التي تُكرسّ أهمية المرأة ومكانتها ودورها الحيويّ داخل النسيج المجتمعي.
وقد اعتبر أزدوك أنّ الإحصاءات الجديدة الصادرة عن وزارة التعليم العالي تُؤكّد المكانة التي باتت تحظى بها المرأة المثقفة، خاصّة داخل مجال العلوم الحقّة الذي حقّقته فيه المرأة المغربيّة طفرة مُميّزة، جعلت بعض الأسماء النسائية تغدو من أجود التجارب التي طبعت هذا المسار المعرفي.
أمّا عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، فيُؤكّد في كلّ مرّة، موقفاً وفعلاً، في تقديم رعاية خاصّة للأنشطة الثقافية والفنّية التي تقوم بها الشعب والمُختبرات داخل الكلية، على أساس أنّ دور الجامعة اليوم، يتمثّل في الانفتاح على المُحيط السوسيو اجتماعي وبلورة علاقة قويّة معه، بطريقةٍ تغدو فيها الجامعة مُختبراً للتفكير والإبداع والابتكار. على أساس أنّ الجامعة ليست فضاء مُغلقاً خاصّاً بالتدريس والتلقين، وإنّما هي طريقة عيشٍ واجتهادٍ في التفكير والإبداع، لكنْ مع الحرص على تأصيل هذه العلاقة الإبداعية مع المجتمع، باعتباره يُساهم في تجذير هذه العلاقة مع الجامعة، رغم أنّ المجتمع يبقى المُستفيد الأكبر من فضاء الجامعة، بحكم ما تتوفّر عليه من إمكاناتٍ في التعبير وطاقات على مُستوى التفكير.
ففي كلمته شدّد عبد الحميد ابن الفاروق، بأهمية هذا اللقاء الذي يضم وجوهاً فنّية مُختلفةٍ وتجارب متباينة من أجيال متنوّعة بين الشعر والغناء والمسرح، بما يجعل اللقاء غنياً ومُكثّفاً وقادراً على خلق جسر تواصل بين الفنون والتجارب، رغم اختلاف المُنطلقات الفنّية والمرجعيات الجماليّة، فإنّهما يتكاملان وفق وحدة عضوية تُضمر في طيّاتها ذلك البُعد التركيبي الذي يفرضه العمل الفنّي، بوصفه نشيداً حداثياً عبارة عن امتداد حقيقي لطبيعة الحياة اليوميّة في أناقتها وفوضاها.
من ثمّ، فإنّ هذا التواشج بين الشعر والمسرح والغناء، والذي ساهمت في خلقه والتفكير به الجامعية والناقدة المسرحية أمل بنويس، مُؤطّرة اللقاء والمُساهمة الفعلية في اختيار التجارب وخلق تشابك جماليّ معها، بدا مُمكناً في ابتداع شكلٍ فنّي جديد، يتحرّر فيه الشعر من غوغائه ويُغدو مع الغناء رحباً فسيحاً على خشة مسرح مُتنوّع وتجريبي غنيّ بالدلالات والرموز.
هذا وقد تخلّل اللقاء العديد من العروض الفنّية التي قام بها ماستر الدراسات المسرحية رفقة مُنسّقه الدكتور أحمد توبة، الذي يُساهم دوماً في رعاية طلبته وكلّ الأجيال الجديد ودفعهم صوب التجريب والإبداع. وهذا الأمر، الذي طالعناه مع الطالبة/الفنّانة زينب وبدي في أداء أغنية « تكبّر تكبّر » للمُطربة أمية الخليل إلى جانب فقرةٍ فنّية لباقي الطلبة مزجت بين الغناء والشعر والموسيقى، كنوعٍ من محاكاة تجارب الضيفات، بما ينتمين إليه من أجناسٍ أدبيّة وتعابير فنّية.
في كلمتها، اعتبرت ثريا الحضراوي أنّ عشقها للملحون مرتبط بطفولتها وشبابها ونشأتها في المغرب، بعدما عملت على تأصيل تجربتها الغنائية من خلال تراثها المغربيّ، وجعله في خدمة أغانيها. اختارت صاحبة « طفولة مغربيّة » تراث فنّ الملحون، بوصفه فنّاً تراثياً يتماشى مع مواقفها ودوقها وقناعتها وأصالتها الجماليّة، لكنّ الحضراوي، تُشدّد في اللقاء أنّ هذا التراث يحتاج إلى تجديد وخلق جديدٍ له، بطريقة نُخرجه من جفافيته ونمنحه حياة أخرى داخل الأغنية المعاصرة. فالتراث على حد تعبيرها إذا لم يتجدّد فإنّه « كغمَلْ ».
من ثمّ، فإنّ التجديد في سيرة الحضراوي يأخذ بُعداً أنطولوجياً، فهو ليس مجرّد خطوةٍ منهجية، بقدر ما يلعب دوراً حيوياً في سيرتها، ما جعلها تخوض تجارب فنّية عالمية مع كبار الموسيقيين في العالم من روسيا وبلجيكا وفرنسا، كما هو الحال في ألبومها الجديد « الموشحات » مع الموسيقي الفرنسي جون مارك مونتيرا.
هذا وتُعتبر ثريا الحضراوي سيدة الملحون في المغرب، لكونها أوّل امرأة غنّت فنّ الملحون في العالم، بعدما ظلّ حكراً على الرجال، لكنّ صاحبة كتاب « البحث عن صوت » تجرأت كأوّل امرأة فوق خشبات المسارح العربيّة منذ منتصف سبعينيات القرن الـ 20. وشيئاً فشيئاً بدأ الناس يتعرّفون على تجربة فنّية جديدة لفنّ الملحون، بعدما وضعته الحضراوي في مُختبر الآلة الغربيّة وظلّ يتطوّر داخلها وينسج لنفسه علاقاتٍ جديدة مع المُستمع الغربي.
أمّا المُخرجة المسرحية أسماء هوري، فقد استغلّت فرصة اللقاء لإلقاء كلمةٍ مُعتبرة وأصيلة حول التنميط الذي تتعرّض له المرأة في العالم، وما يُرافقه من كليشيهات بائسة، رغم المكانة التي وصلت إليه والنجاحات المُتوالية التي تُحقّقها المرأة المغربيّة. ولفتت صاحبة مسرحية « خريف » أنّ تجربتها بدأت منذ عام 2010 بعدما عادت من السويد وساهمت في كتابة وإخراج العديد من المسرحيات إلى جانب رفيق دربها الفنّان رشيد برومي.
واعتبرت هوري أنّها تجربتها تبقى دوماً مفتوحة على مفهوم « التجريب » الذي تُظهر لنا في كلّ مسرحيةٍ جديدة لها، أنّه ليس مفهوماً عامّاً يتشدّق به المُبدع للانتماء إلى المسرح المعاصر، بقدر ما يُمثّل تصوّراً جمالياً ومشروعاً فنّياً مُؤسّساً على رؤيةٍ تكاملية، مع ما يدور في فلك المسرح العالمي من تجارب ورؤى.
تتمثّل أصالة المخرجة أسماء هوري، في قُدرتها على جعل الجسد يأخذ طابعاً وجودياً، فهو ليس إكسيسواراً ولا حتّى عضواً حياً، بقدر ما يُمثّل براديغماً فلسفياً منه تتبلور القصص والحكايات والرؤى والأحلام، فالجسد ليس آلة لتوليد الرغبة على حد تعبير الفيلسوف الفرنسيّ جيل دولوز، ولكنّه أداة تُدين الواقع المغربيّ وتُعرّي مُتخيّله ومَكبوثه وسُلطته في قهر هذا الجسد، استناداً إلى أفكار ماضويّة وصُوَرٍ نمطيّة مُترسّبة في بنية اللاوعي الاجتماعي المغربي وتاريخه وذاكرته.
أما الشاعر سُكينة حبيب الله، صاحبة مشروع البيرفورمونس « نيني يا مومو » الذي تُحقّق معه في الأيام القليلة المُقبلة جولة في أوروبا، فقد تكلمت عن تجربتها القصصية والروائية والشعريّة، وأنّه لا مجال اليوم إلى وضع حدودٍ وسياجاتٍ بين الأجناس الأدبيّة ونظيرتها الفنّية، لكونها تقوم على مبدأ « الخرق » الذي يُعتبر مفهوماً أصيلاً في الفنّ المعاصر.
وجواباً على أسئلة الجمهور، قالت صاحبة « خطّة بديلة » أنّ تجربتها الشعريّة لا تنتمي إلى مدرسةٍ مُعيّنة، بقدر ما تمتح أنفاسها من تاريخها الخاصّ، بما يجعلها أشبه بنبتة الظلّ التي تمتح كلّ شيءٍ من جسدها. مع العلم أن الشاعر حين يكتب يكون دوماً خاضعاً لتجارب أخرى تماهى معها منذ طفولته على مُستوى القراءة والحبّ والتحصين، لكنّها تختفي مع مرور الزمن، فتُصبح مجرّد أثرٍ عابر أو ندوباً خفيفة في جسده.
جدير بالذكر، أنّ اللقاء الفنّي/ الأدبي قامت بتسييره وتنسيقه الناقدة المسرحية أمل بنويس، التي أجادت أدبيات الصنعة وسهّلت عمليه التقاطع والتلاقي بين القول الأدبي ونظيره الفنّي، بعدما جعلته طيّعاً في ذهن المُتلقّي، خاصّة وأنّ صاحبة كتاب « الحداثة العالقة: مأزق الطليعة في المسرح العربي » تُعدّ من الباحثات في مجال المسرح وساهمت في تقديم وتسيير العديد من الندوات والجلسات الثقافيّة داخل المغرب وخارجه.