أشرف الحساني يكتب: كيليان مبابي.. «مغربي» حتّى الرمق الأخير

أشرف الحساني / ناقد فني

في 13/04/2023 على الساعة 18:34

مقال رأيشخصياً، كلّما شاهدت اللاعب الفرنسي من الأصل الكاميروني كيليان مبابي، إلاّ وتذكرت مونديال قطر 2022. تلك الأيام المُفرحة التي لن تتكرّر أبد الدهر، كلّها كانت عبارة عن بهجة وبسمة وحلم وهواء وماء. بل إنّها قلّبت التربة وحرتت ذاكرة المغاربة وقلوبهم، بحثاً عن مكان دافئ لفرحهم وأحلامهم.

حين أنظر إلى عيناي مبابي، ببياضهما والصفاء الذي يتملّكهما، يستيقظ في جسدي كل تلك الأحلام السرمدية التي تنام داخلنا وتكبر معنا في مُدن الضواحي والهوامش القصيّة المنسيّة من مدارات التفكير المؤسّساتي. إنّ الذين لا ننتظر منهم شيئاً، غالباً ما يُدهشوننا بعطاءاتهم وإنجازاتهم، ويُقدّمون لنا أفلاماً وكتباً وأغانٍ ومباريات لا تنسى. إنّ الحلم جميلٌ، لكنّه عسير، ولا يقوى على تحقيقه، إلاّ من يملك موهبة يسعى إلى تطويرها في الخفاء، بما يجعلها تحفر مجراها عميقاً في ذاكرة الناس ووجدانهم.

أحلام الهوامش والضواحي، تكون دوماً صعبة وحزينة، لكون النجاح فيها مُعقّد ويحتاج إلى جانب العزيمة والقُدرة على البقاء، موهبةٍ سحريّة تنتصر على كلّ الأعراف والتقاليد والقيود والأغلال. موهبةٌ فذّة يعجب لها العالم ويروي سيرتها للأجيال.

كما أنّ تشابك التحايل السياسيّ بالقهر الاجتماعي على بعض اللاعبين في بداياتهم، يُساهم في تغريب هذه المواهب. خصوصاً وأنّ والده كان عازماً على تقديم ابنه للمنتخب الكاميروني، لكنّ بعض الأفراد وسماسرة المنتخب الكاميروني طلبوا منه رشوة، لم يدفعها بسبب عدم توفّره على المال. لكنّ مبابي الذي رُفض من اللعب مع الكاميروني، سيُسجّل هدفاً ويهُزّ شبّاكهم الحزين.

حين أفكّر في المونديال، لا أتذكر سوى مبابي يحرث جرياً ومُراوغة. لا أتذكّر سوى حزنه، بعد خسارته أمام المنتخب الأرجنتيني، وهو يمنح كأس العالم المشتهى للنجم ليونيل ميسي. إنّ الحزن حزنه « هو » كلاعب وكبطل وليس حزن لفرنسا. إنّه سيرة جسدٍ يتقلّب في مواجعه، يتذكّر عائلته وأصدقائه وماضيه الحزين في بوندي، ضاحية اليد العاملة. يتذكّر تلك الليالي المُرعبة وأحلامه تتقافز إلى سطح مُخيّلته على شكل كوابيس.

لم يستسغ مبابي طعم خسارة « الزرق » رغم أنّ العالم كان يُغنّي ويرقص نشداناً له ولسيرته البطولية. لم يذرف دمعاً، لكنّ قلبه تقطّر دمّاً وحزناً بعد نهاية المبارة. لاحظ العالم كيف أنّ مبابي لم يبدي اهتماماً يُذكر بالرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون الواقف أمامه. لم يهتمّ بالجماهير وهي تُلوّح له من فوق المُدرّجات، ولا بملايين الفرنسيين الذي خرجوا لإلقاء التحيّة عليه وعلى فريقه بساحة الكونكورد، بعدما أطلّ كيليان مبابي على عُشّاقه وجماهيره وبسمة صغيرة تعتلي وجهه ومحياه.

من الأشياء المُثيرة التي لن تُنسى عن مبابي وذاكرة المونديال، كيف التحم اللاعب مع المنتخب المغربي. إذْ بعد كلّ مقابلة نارية نرى فيها مبابي مع اللاعبين المغاربة في حجرات تغيير الملابس، مُتحدّثاً وضاحكاً معهم ومواسياً ومُشجّعاً لهم في مقابلاتهم الكروية التاريخيّة. مبابي أحبّه المغاربة بقوّة وبات يحتلّ في يوميّاتهم، مكانة مُميّزة بسبب تلك الأخلاق النبيلة التي أبان عنها مع المنتخب المغربي. بل رأينا مدى فرح اللاعب لحظة تسجيل المنتخب، وكيف استطاع على مدار المونديال تحمّل النقد غير المُبرّر من الإعلام الفرنسيّ الذي وُجّه إلى مبابي، بسبب وجوده في مدرجات فريق المنتخب.

لم يهتم مبابي به، وإنّما عمل طيلة المونديال على تأكيد صداقته بالنجم أشرف حكيمي، فهما يُشكّلان معاً الأصل الإفريقي المتجذّر في الحبّ والصفاء والأخلاق النبيلة حتّى بعد تحقيق الشهرة. مَشاهدُ صداقة أبداها اللاعبان مع بعضهما البعض قبيل المقابلات وبعدها وأثناء خروجهما من الملعب.

يحتفظ المغاربة بصورة لامعة وأصيلة عن مبابي، إنّهم يُشاهدون جميع مبارياته ويُدعّمونه كما لو كان ابنهم ويحمل قميص منتخبهم وتربة أجدادهم. ما فعله مبابي رفقة المنتخب الوطني لن يُنسى ولا تستطيع الأيادي الوضيعة أنْ تُفسد مظاهر الصداقة النبيلة التي تُوّجت في النهاية على شكل مقابلة كروية بين الصديقين، لكنّ الصداقة لم تنكسر، بل اشتدّ عضدُها وعصاها. بل إنّنا رأينا بعد نهاية المباراة كيف ظلّ مبابي مُلتصقاً بصديقه أشرف حكيمي ويتبادلان قميص بعضهما البعض.

كم نحن اليوم، وسط العداء العنيف الذي تُروّج له كرة القدم اليوم في المغرب، أنْ نرى صداقة عميقة ومتينة بين اللاعبين، بما يجعل المباريات تكون عبارة عن احتفالات، كلّ فريقٍ يُظهر فيها جماله وسحره ومكانته وأهميته داخل زمنه، بدل أنْ تتحوّل الملاعب إلى ساحات قتلٍ وتعذيب، بعدما أصبحت فيها جماهير كرة القدم، تُقدّم صورة سيئة عن هذه اللعبة الشعبية التي عمّرت طويلاً بفتنتها وسحرها وجمالها في العالم.

ذكرياتٌ أحسّها تتقافز إلى جسدي الآن، وترسم صورة أبديّة، بما تنطبع به حياة الأبطال وما ينبغي أنْ تكون عليه كرة القدم، لعباً وتشجيعاً وحباً واعترافاً وصداقة..

تحرير من طرف أشرف الحساني
في 13/04/2023 على الساعة 18:34