ليس غريباً داخل الفكر الفلسفي المعاصر أنْ يُلاحظ المرء اهتمام عشرات المفكرين الغربيين بالتراث الفلسفي العربي الإسلامي، فقد طالعنا منذ نهاية القرن التاسع عشر كتابات غربية تندرج في إطار ما سمي تاريخياً بـ "الاستشراق" الذي حاولت فيه كتابات عديدة توجيه النقد للتراث الإسلامي من زاوية أيديولوجية تقوم على إظهار الجانب الغرائبي للشعوب العربية قبيل الاستعمار. لكنّ دراسات أخرى عملت تكييف مقاربتها الفلسفية فمزت في كتاباتها بين النهل من مضان الفكر الغربي ونظيره العربي لدى كل من ابن عربي وابن رشد والغزالي وان باجة وغيرهم من الفلاسفة المسلمين الذين أسسوا متناً فلسفياً يستحيل اليوم التغاضي عنه أو التعامل معه على أساس أنّه "استشراق" بسبب جدّة هذه المؤلّفات في طرح قضايا هامّة ترتبط بالتراث الفلسفي الإسلامي منذ بواكيره الأولى.
هذا ويُعدّ لين إيفان أستاذ فلسفة بجامعة فاندربيلت وأستاذ كرسي أندرو ملتون في الإنسانيات وكتب عن أغلب أعلام الفلسفتين الإسلامية واليهودية كإخوان الصفا وابن مسكويه وابن سينا وابن ميمون. وتشغل كتابات صاحب "الإنسية الإسلامية" ناصية كبيرة داخل التراث العربي لكونها تُقدّم درساً معرفياً قوياً يقوم على نقد بعض شوائب هذا التراث والاحتكام إلى مناهج معاصرة في النّظر إلى بعض المفاهيم والقضايا والإشكالات والعمل على تجديدها أو على الأقلّ تصحيحها وتوجيهها حتّى تصبح ذات دلالاتٍ فكريّة مؤثّرة في خطاب الفكر العربي المُستند في منطلقاته التاريخيّة وتجلّياته الفلسفية على التراث الفلسفي الإسلامي.
خصّص المفكّر الأمريكي محاضرته باللغة الإنجليزية حول مدى حضور الأندلس بكلّ تراثها النوعي المختلف داخل فكر ابن ميمون، حيث رصد زاوية نظر هذا المفكّر إلى الاختلاف الجوهري الذي يطبع مفاهيمه حول الطب التجريبي، بعدما قام باستعراض ونقد الأسس الفكريّة التي تشكّل منها فكره حلو الطب. إذْ اعتبر أنّ التراث الفلسفي الأندلسي قد ساهم وبوعي كبير في تغذية وجدان ابن ميمون ودفعه إلى التوفيق بين العلم والدين، وهي رؤية فكريّة تُضمر في طيّاتها مدى تأثير فكر كل من ابن حزم وابن رشد.
ورغم الأبعاد الفلسفية التي حاول المفكر الوصول إليها، فقد بدت محاضرته موغلة في التاريخ عن طريق استعراض أهمّ اللحظات التاريخيّة التي مرّ منها فكر ابن ميمون قبل التوصّل إلى لحظات هاّمة ستُشكّل منعطفاً قوياً في الطب دفعته لاحقاً إلى أنْ يغدو ضمن فريق أطباء صلاح الدين الأيوبي. والحقيقة أنّ هذا المزج في محاضرته بين التاريخي والفلسفي يؤكّد مدى حضور المقاربة التاريخية في كتاباته، باعتبارها طريقة في التفكير وإرساء دعائم مشروع فكري يتأسّس على الفلسفة والتاريخ.
إنّ التاريخ في نظره ليس مجرّد زاوية بانورامية ترصد الأحداث، ولكنّها طريقة ناجعة في تأسيس وعي جديد بالكتابة الفكريّة كمُحاولة الجمع بين التاريخ والفلسفة لإعادة الاعتبار إلى مركزيّة التاريخ في صناعة الفكر. وهذا الأمر، ما حاولت محاضرة لين إيفان رصده بقوّة في حول مدى تأثير مرحلة تاريخية في فكر ابن ميمون وكيف قادته صوب منعطفات قويّة من تأسيس فكر نوعي يجمع بين العقل والدين.