أنْ يصل المغرب كأوّل دولة إفريقية وعربيّة إلى ربع نهائي كأس العالم، فهذا حدث استثنائي في تاريخ كرة القدم. إنّه حدثٌ كروي لن يُنسى، طالما أنّ الخصم فريق كبير مثل إسبانيا. لكنْ ما فعله الأسود على أرض الملعب كان ساحراً ومُذهلاً إلى أبعد درجة. لقد أزاحوا الإسبان عن طريقهم وتعاملوا معهم على أساس أنّهم فريق عاديّ لا يستحقّ كلّ هذا التطبيل الذي عمّر طويلاً في مخيّلة العالم. إذْ بمجرّد انتهاء ضربات الترجيح وفوز المنتخب كتبت صحيفة إسبانية ساخرة "المغاربة يرسلون الإسبان إلى بيوتهم" وهي عبارة تُضمر في طيّاتها أكثر من دلالةٍ سياسيّة، رغم أنّ الحدث يبقى رياضياً بامتياز.
لكنّ الجُرح الذي أحدثه أسود الأطلس للإسبان، سيظلّ غائراً ومُنطبعاً في ذاكرة مونديال قطر. ليس الفوز أهمّ شيء في مقابلة المغرب ضد إسبانيا، بل التحدّي الساحر الذي وجد اللاعبون أنفسهم فيه. منتخبٌ أعزل من العالم العربي، يجد نفسه في ربع نهائي تاريخ كأس العالم بطريقةٍ جعلته مُتوّجاً بملايير الصُوَر والتعليقات والفيديوهات في كلّ أنحاء العالم. لقد كان تعبير الصحيفة الإسبانية دقيقاً، بل وجعلوهم في وضعِ هشّ وساخر أمام أنظار العالم.
مَشهدٌ كرويّ مُذهل: فرح الجماهير المغربيّة يقتحم الملعب في غمرة عشقٍ مُزدوجٍ، أمهات مغربيّات يؤازرن أبنائهنّ، اللاعبون وهم يسجدون فوق أرضية الملعب، علم فلسطين يُرفرف عالياً في الهواء. أمّا في المغرب، فقد بدا المغاربة وكأنّهم يفرحون لأوّل مرة، مُنتشرين على طول المدن والبوادي، يُغنون ويرقصون نشداناً للحبّ والكرة والحياة والانتصار.
لم يفرح المغاربة لوحدهم ولم يرقصن بشكل منفرد، وإنّما احتفل العالم ككل بهم وبنجاحاتهم وشاركوهم فرحتهم برفع الأعلام وزعيق السيارات والتعليقات والصُوَر في كلّ من فلسطين وتونس والأردن وباريس ولندن وإيطاليا وقطر والإمارات. كل هذه البلدان رفعت علم المغرب كعربون محبّة واحترام، لما قدّمه الأسود داخل الملاعب القطرية في مباراتهم التاريخيّة ضد إسبانيا. لقد كان الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم مُحقاً بقوله "المستحيل ليس مغربيا. المستحيل ليس عربيا. أسود ورجال المغرب بكم نفخر ونفاخر العالم".
إنّ الحلم جميل وعسير، لكنّه لا يدخل في عداد المستحيل الذي اعتبره الأسود مساء يوم الثلاثاء مُمكناً. فحين يتّحد المغاربة فيما بينهم يُحقّقون ما لا يُمكن تخيّله. وهذا ما تلمسناه بعمق في مونديال قطر، إذْ غدا الأسود رفقة مدربهم جسداً واحداً وحجارة صلبة منيعة ومتراصّة يصعب اختراقها وتهديمها من الداخل.
أظهر أسود الأطلس شجاعة كبيرة للتغلّب على خصمهم الإسباني، ما جعلهم بطريقة واعية إلى إخراج المغاربة صوب الشوارع والطرقات والمقاهي، حيث كل يصرخ ويرقص فرحاً. مَشاهدٌ مؤثّرة لن تُنسى، فما لم تستطع السياسة القيام به لتوحيد المغاربة، فعلته كرّة القدم لتوحيد العالم ككلّ. لقد أظهر أسود الأطلس للعالم بأنّ الكرة لا دين ولا لون لها، بل لا يحكمها نظام مُحدّد مع انطلاق المقابلة. فهي تقع خارجة الصراع والحدود والسياجات لدرجةٍ جعلوها تعبر الزمن الواقعي المُضمّخ بالجرح والصراع، فأخذوها إلى مناطق الحب والصداقة. وهذا في حدّ ذاته يُظهر الوجه الترفيهي الناعم لكرة القدم، لا كما تُسوّقها لنا القنوات الرياضية العالم في كونها عبارة عن معارك رياضية.
لأوّل مرّة بدا المدرّب مُنسجماً مع اللاعبين كأنّهم من عائلةٍ واحدة. على أرض الملعب أصبح اللاعبون مثل نوتات البيانو. الكلّ في مكانه يعزف بانتظام، وبدون أيّ نشاز يقودون الكلمة صوب لحنٍ موفّق. وللحصول على لحنٍ(هدف) جيّد، لا بدّ من وجود مايسترو مخضرم وبارع مثل وليد الركراكي الذي كان موفّقاً على أرضية الملعب، من خلال وضع خطّة ذكية تقوم على سد ثغرات الخصم ودفعه إمّا للتراجع إلى الوراء أو الاصطدام بشكلٍ تلقائي بجدار اللاعب امرابط. فهذه الخطّة بدت ناجعة أمام المنتخب الإسباني بعدما حرص المدرّب على دفعهم صوب ضربات الترجيح التي جعلتهم في غضون دقائق قليلة خارج المونديال.
أسقط أسود الأطلس كلّ الأساطير الموجعة التي عمّرت طويلاً في تاريخ كرّة القدم حول تسمية "الفريق الكبير" بعدما جعلوا كلّ الفرق القويّة خارج التاريخ، إنّها فرحة ومُعجزة لم نعهدها إلاّ داخل مونديال 2022.