أثار مشهد سينمائي مُتخيّل لحالة اغتصاب إدريس الروخ للمُمثّلة الشابّة سارة بيرليس زعيقاً مُجتمعياً، وكأنّ الذي عاينوه في الفيلم، لم يسبق لهم أنْ شاهدوه. مع العلم أنّ الفيلم عُرض في الصالات السينمائية المغربيّة منذ عام 2017 سيما وأنّ السينما لا تفرض على المُشاهد إنتاجاتها الفنّية، مقارنة بالتلفزيون الذي يفرض سُلطة على المُجتمع من خلال توغّله في بيوت الناس وفرض محتوياته وبرامجه، رغم أنّ كلّ ما هو جريء في هذا الوسيط غير موجود، سواء كان سياسياً أو اجتماعياً.
إنّ الذين أحدثوا كلّ هذا الجدل، لم يُشاهدوا الفيلم ولا يعرفون موضوعه وسياقاته أو حتّى مُخرجه، باستثناء مشهدٍ مُتخيّل صغير، تم نشره على وسائل التواصل ليُحدث كلّ هذا الجدل العامّ داخل المجتمع. المُضحك أنّ البعض ذهب سريعاً لمُشاهدة "جرادة مالحة" مُعتقداً أنّ المَشهد الجنسي مُتضمّناً فيه، دون أنْ يمنح نفسه فُسحة تفكيرٍ وبحثٍ عن أصل المَشهد والفيلم الذي اقتُطع منه. لكنّ المُحزن أنّه تم تداول المشهد على أساس أنّه فضيحة وليس مشهداً سينمائياً يطرح أسئلة فكريّة ذات صلةٍ بالجسد والرغبة في علاقتهما بالمُتخيّل. فبدا المُشاهد وكأنّه تحوّل طيلة مدّة عرض المَشهد إلى رقيبٍ على السينما ومُتخيّلها، فيُقيم لها الحدود والسياجات، لكنّه يحتجّ في نفس الوقت، على ما تنتُجه السينما المغربيّة من أفلام، لا ترقى في نظره إلى أنْ تُعرض وتحظى بكلّ الدعم المادّي الذي يمنحه لها "المركز السينمائي المغربي".
لكنْ بعيداً عن هذا المَشهد، تظلّ الرقابة سُلطة قاهرة لفعل الإبداع بصفةٍ عامّة، لكونها تقف عائقاً أمام الكاميرا، ولا تتركها تلتقط تفاصيل صغيرةٍ من حياة الناس وتعمل بهدوءٍ على تخييلها وفق نظامٍ مُحدّد من التصوير. فهذا المنع لم يعُد حكراً على المؤسّسات الفنّية الرسميّة التي طالما تعرضت لسيرة بعض الأفلام، إمّا بسبب إيحاءاتٍ جنسيّة أو رسائل سياسيّة أو في مُحاولة نقدها للرأسمال الدّيني، لكنّها غدت اليوم، فعلاً مُوجّهاً لسوسيولوجيا مُشاهدةٍ أضحت تضع حدوداً لمفهوم المُتعة البصريّة. لا توجد في السينما صُوَرٌ نظيفة وأخرى هَجينة، لأنّها تقوم على خاصية شعبيّة وديمقراطية، تجعلها تغوص في مُستنقع الواقع المغربيّ وتُعيد إنتاجه بمعايير وتوابل صورةٍ سينمائيةٍ، يغلب عليها التخييل أكثر من اهتمامها بالتوثيق والرغبة في نقل الواقع وتصويره بميكانيكية فجّة تُبطل معها خصائص الصورة السينمائية ومفهوم الخيال الذي يُعدّ أداتها الفعّالة في الاشتباك مع الواقع.
تُعدّ الممثلة المغربيّة سارة بيرلس من الوجوه السينمائية الشابّة، التي غدّت السينما المغربيّة وفتحت لها أفقاً جديداً على مُستوى التخييل. فالمُشاهد المغربيّ، لم يعُد قادراً على دفع ثمن تذكرة ذهابٍ إلى السينما ليصطدم بنفس الوجوه التي تعوّد على مُشاهدتها في المسرح والدراما. لذلك، فإنّ هذه الوجوه الشابّة، تخلق دوماً الحدث السينمائيّ وتدفع الناس للبحث عن أمورٍ شخصيّة، لا علاقة لها بالسينما عموماً، وذلك من خلال أخبارٍ شخصيّة أو صُوَر ومَشاهد ومعلومات حول عائلتها وحبيبها وملابسها ووجباتها المُفضّلة، هذا فضلاً عن الوجهات السياحية التي تُفضّل قضاء العطل السنوية فيها.
بل أضحت هناك مجلاّت خاصّة بهذا النوع من الأخبار والمعلومات وتُحقّق مبيعات عالية، لأنّها تُحقّق المطلوب الجمالي بالنسبة للمُشاهد من معلوماتٍ شخصية وصُوَرٍ فنّية، تجعله سبّاقاً إلى معرفة أحوال الممثلة / الممثل والتحقّق من سيرتها وكأنّ ذلك سيُساعده مُسبقاً على فهم الفيلم ودلالاته الرمزيّة والأنطولوجية والجماليّة والفنّية.
إنّ أمراً كهذا، لا علاقة له بالفنّ أصلاً، وإنّما تلصّص يدفع المُشاهد إلى تكوين صُوَرٍ وهميّة عن الممثلة ومكانتها وشخصيتها داخل الاجتماع المغربيّ. ولم تكُن صاحبة "بورن آوت"(2017) الوحيدة التي تعرّضت للنقد والتنمّر، بل سبقها منذ بداية الألفيّة الجديدة العديد من الممثلين المغاربة. ورغم الجدل الذي رافق المشهد السينمائي، فإنّه يبقى مجرّد كلام ليلٍ يمحوه ضوءُ النّهار، لكونه غير مُؤسّسٍ على معرفةٍ صلبةٍ ومتينةٍ، كما أنّ مُنطلقاته ليس فكريّة أو جماليّة، بقدر ما ترتكز على دوافع دينية تُلخّص المُشاهدة السينمائية في منطق الحلال والحرام.
شخصياً، أرى أمراً سكيزوفرينياً في علاقة المُشاهد المغربيّ بالمُتخيّل السينمائي. إذْ يستطيع في خلوته مُشاهدة أجمل أفلام الحبّ الغربيّة، بما تتضمّنه أحياناً من مَشاهد جنسية صارخة، لكنّه يُصبح رقيباً أو داعية، حين يتعلّق الأمر بفيلمٍ مغربيّ، قد تكون حساسيّة مَشهده مجرّد قُبلةٍ أو عناقٍ غير مرغوبٍ فيه. هل يبدو ذلك عادياً بالنسبة للسياق التاريخيّ الذي نوجد فيه اليوم في الزمن المعاصر؟ والمَسار الجمالي الكبير الذي قطعه الفنّ السابع في المغرب، ونحن نُعاين اليوم هجوماً غير عقلانياً ونقداً لاذعاً على المُمثّلة الشابّة سارة بيرليس على وسائل التواصل؟ كيف يجوز النقد (إذا كان مشروعاً علمياً) بدون حصانةٍ معرفية وسياحةٍ طويلةٍ في الفكر الإنساني؟ ولماذا ما نزال نعتبر مَشاهدٌ سينمائية جنسية مُتخيّلة "فضيحة" أو أمراً مُخلّاً بثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا؟
إنّ الأمر يحتاج إلى تفكير عميقٍ للخروج من شرنقة هذا النّمط من التفكير الذي لا يُميّز بين "الواقع" و "الخيال". إنّ ما ينبغي فهمه وضبطُه أنّنا حين نكون أمام شاشة السينما وعوالمها، فنحن نكون في حضرة خيالٍ مُجنّح لا حدود له، بل حتّى الجسد في السينما يكون عبارة جسدٍ رمزيّ مُتخيّل، لا علاقة له بالجسد الفيزيقي الذي نوجد فيه.
مَشهدٌ سينمائيّ صغيرٌ واحدٌ، عرى كلّ أوهام مُجتمعنا، بما ندّعيه من سلوكٍ ثقافي وحداثةٍ فنّية. ومن هنا تأتي قُدرة السينما على إسقاط كلّ أوهامنا، وبالرغم من كونها مجرّد آلةٍ لا تُفكّر، فإنّها استطاعت خلخلة أفكارنا ووضعتنا، أمام حقيقة أجسادنا والنّمط الفكري الذي ما نزال نحتكم إليه في مُنطلقاتنا وتصوّرنا لمفهوم السينما وما ينبغي أنْ تكون عليه في نظر المُشاهد المغربيّ، وليس كما تُكتب وتُنتج وتُصوّر وتُركّب في العالم الغربيّ ككلّ.
تضعنا الممثلة سارة بيرليس أمام حقيقتين: إمّا التشبّث بقيم وجماليات السينما من خلال إطلاق العنان للجسد وتعبيراته المُتخيّلة والدفع به إلى حدوده القصوى كنوعٍ من التجريب البصريّ القائم على التخييل السينمائي، أو ننسى كل هذه الحداثة البصريّة وأحلامها المُعطّلة ونظلّ أمام عتبة "الحشمة" و"القيم" و"العادات والتقاليد" فنحكُم على السينما المغربيّة بموتٍ سريريّ يجعلها مجرّد تراث نوسطالجيّ وريح عابرة وطللاً بائداً في خلاءٍ مُقفّر.