خسارةٌ أخرى، تنضاف إلى سلسلة من المَواجع الأليمة، التي ألمّت بالثقافة المغربيّة في الآونة الأخيرة، فبعد رحيل المفكّر محمّد سبيلا والناقد محمّد مفتاح والتشكيلي محمّد المليحي، يترجّل الفنّان والمُخرج محمّد أبو الوقار في صمت، بعدما شغلت لوحاته حياة النقّاد وتركت أثراً طيّباً لا يُمحى في ذاكرة الفنّ التشكيلي المغربيّ المعاصر. تجربةٌ عميقة لا يقوى أحدٌ اليوم على طمسها أو محاكاتها من خلال انتحال موادها وألوانها وكائناتها، إنّها ثمرة سفرٍ ورحلة ودراسة وتفكير، منذ أنْ وجد محمّد أبو الوقار نفسه في روسيا من أجل دراسة الإخراج السينمائي بالمعهد العالي للسينما في موسكو، حيث التقى هناك بكبار الفنّانين والمُمثلين والمُخرجين، سيما ما كانت تشهده روسيا آنذاك من حراكٍ اشتراكي، عزّز وظيفة الفنّ وقُدرته على التأثير في الجماهير الهلامية واستمالتها، صوب السياسة والثورة، انطلاقاً من المدخل الفنّي ومساربه التخييلية.
وهذا ما حدث بالضبط مع الكثير من التجارب الفنّية التي وجدت نفسها، قد انساقت إلى حساسيّة اللحظة التاريخيّة المفصلية في تاريخ روسيا، فقد بدت هذه التجارب وكأنّها تشتغل برؤيةٍ سياسيّة محضة، تدين فداحة الرأسمالية الأميركية وتُعرّي أعطابها ومآزقها.
وهنا ستظهر ملامح الواقعيّة الاشتراكية في الفنّ التشكيليّ، الذي غدا أنجع الوسائل للتأثير في المعسكرين الشرقي والغربي إبان الحرب الباردة. فبدأت الحكومات تُدعمّ هذا المنزع الفنّي الجديد القائم على مفهوم الثورة والانتصار للوطن، حتّى برزت سلسلة من التجارب التشكيليّة التي عُرفت في تاريخ الصباغة بـ "الفنّ المُلتزم" الذي منه سيمتح الفنّ العربيّ بدوره ملامحه وإرهاصاته الأولى. غير أنّ الفنّ الملتزم في البلاد العربيّة، لم يكُن وليد وعي مُتجذّر في ذاكرة هذه المُمارسة العيانية، وإنّما بسبب اللحظة التاريخيّة، التي وجد فيها الفنّانون العرب أنفسهم في خضمّ مُواجهة الاستعمار أو العولمة أو التنميط والترفيه. ورغم ما تبدّى في هذه التجارب الواقعيّة من جرأةٍ واشتغالٍ فنّي مُكثّفٍ، إلاّ أنّها كانت أيديولوجية الطابع لكون مُنطلقاتها لم تكُن جماليّة فقط، بل أيضاً سياسيّة ثورية تقود العمل الفنّي، صوب مُنعرجات واقعيّة أكثر تجذّراً في وحل السياسة وايديولوجياتها.
وفي الوقت الذي انصاع فيه مخرجون وتشكيليون عرب من الأردن والعراق والمغرب إلى هذا التوجّه الاشتراكي، وجعلوا منه مُنطلقاً فكرياً للغوص في ذواتهم وأحلامهم، ظلّ التشكيليّ محمّد أبو الوقار، بعيداً في أعماله الفنّية عن هذا المنزع السياسيّ الايديولوجي، بل إنّنا نعثر على لوحات محمّد أبو الوقار، وقد نأت حتّى عن واقعها المغربيّ، من خلال سفرٍ بصريّ في تخوم المحكيات الروسية، وكأنّ الراحل كان يعمل على القبض عن روح روسيا القديمة وخرافاتها، من أجل فهمٍ دقيقٍ لجسد الإنسان المعاصر وجراحه.
لكنّ هذا المنزع الأسطوري في لوحاته التشكيليّة، يحضر باعتباره حلماً ذاتياً فانتازياً وليس تمثيلاً موضوعياً للنّمط السيري للحكاية الأصل، ما يُفسّر البُعد البصريّ الاستيهامي المُذهل الذي امتلكه أبو الوقار، بما يجعله يجترح أفقاً تشكيلياً غنياً بدلالاتٍ ورموز، تجد زخمها الجمالي في ثنائية الأسطوري والواقعي، وتارة في المُنمنمات البيزنطية وتارة أخرى في أعمال الفنّان الروسي المُجدّد مارك شاغال، سيما على مُستوى الألوان، لا الشخصيات وأجسادها.
في كلّ لوحةٍ عند محمّد أبو الوقار، يبرز الجسد بوصفه علامة وجودٍ عن جُرحٍ يُلاحق الإنسان حتّى مماته. لكنّ الجسد في أعماله يظلّ مُعذّباً وفي حركيّة دائمةٍ ينسج وجوده من أنطولوجية اللون ودلالاته الرمزيّة بالنسبة للخرافة. وبغضّ النّظر عن مصير هذا الجسد وأسباب تأزّمه وانحطاطه، تتضمّن تجربة أبو الوقار التشكيليّة فهماً عميقاً للذت الإنسانية في راحل مُتقطّعة من وجودها، إذْ يُحاول عبر الأسطوري والخرافي إبراز مكان الجُرح فيه، كما يفتحه بشكلِ جريء على مفهوم "القبيح" في الفنّ التشكيليّ والإمكانات المُذهلة التي يُتيحها الاشتغال على هذا المفهوم، بوصفه مفهوماً يقابل "الجميل" عند إيمانويل كانط المُرتبط بالتمثّل واحتكامه إلى مفهوم الحساسيّة في تمييز جودة ومتانة العمل الفنّي.
لكنّ "القبيح" عند الفنّان، يُعتبر مفهوماً مُؤسّساً لجوهر التجربة، فلا يكاد المُتابع يعثر على عمل واحدٍ ظلّ بمنأى عن جماليّات القبيح (أو الهجين أو الذميم) التي عمل على بلورتها وفق قالب تشكيليّ، يُحدّ من سُلطة النظريات وغوغائية المفاهيم الجماليّة الكلاسيكيّة المُنتشرة في تاريخ التشكيل الغربي، وإنّما إعطاء الأهميّة لكلّ ما هو هجينٌ في تأسيس شرعية العمل الفنّي وذيوعه.
لا تعمل لوحات أبو الوقار على تصوير ميكانيكي لهذه الخرافات، بسبب عدم وجود صُوَرٍ أيقونية لها، ما يجعلها تتدفّق عبر شلالٍ حلمي انطباعي، يُقوّض فعل الإبداع، ويجعل جسد الفنّان يتجاوز حدود العقل الصارمة ومآزق وتصدّعات الواقع الذي ينتمي إليه، وذلك عبر فتح التجربة التشكيليّة المغربيّة على مجهولها وارتياد آفاقٍ تعبيرية أخرى، لا ترتكز أساساً على الواقع والتراث والذاكرة في صياغة عوالم تشكيليّة بصريّة، بقدر ما يُوسّع مفهوم الرؤية/ الذائقة، ويجعلها تسرح في فضاءات العجائبي والغرائبي والأسطوري الهَجين منه والملائكي. ولأنّ الروس يُؤمنون بقوّة بمثل هذه النماذج الأسطورية في حياتهم المعاصرة، فإنّهم سرعان ما ينكبّون على مَعارض أبو الوقار في روسيا ويُتوّجونه فنّاناً مُغايراً ببصيرته وألوانه وطرائق تفكيره في كيفية تشكّل وتأسيس عمله الفنّي المُنفتح دوماً على تجريب عوالم ميتافيزيقية لا مرئية.
وعلى الرغم من شهرة صاحب "حادّة" داخل الوسط الفنّي الغربيّ، إلاّ أنّ حضوره داخل الوسط التشكيليّ المغربيّ بدا قليلاً، ومُقتصراً على جيل الروّاد داخل الساحة التشكيليّة المغربيّة، في حين أن مُنجزه السينمائي الطويل الوحيد "حادّة"، ظلّ حاضراً بقوّة في وجدان المَغاربة لفترةٍ طويلة من الزمن، سيما وأنّه فاز بجوائز هامّة في المهرجان الوطني للفيلم عام 1984 وحظي بإشادة النقّاد والمُتتبّعين للشأن السينمائي، نظراً للقُدرات الإخراجية التي أبان عنها أبو الوقار، سيما وأنّه من أوائل المُخرجين المَغاربة، الذين فتحوا الصورة على التجريب البصريّ القائم على اختيار مَعايير دقيقة في أنماط الصورة السينمائية وفي تمثيل مفهوم الجمال، في وقتٍ كانت في السينما المغربيّة مُنغمسة في محاكاة الواقع وإدانة المُستعمر.
فكان الراحل محمّد أبو الوقار بفيلمه اليتيم وكأنّه يخترق حدود الحداثة البصريّة داخل السينما المغربيّة في ذلك الوقت المُبكّر، من خلال الاهتمام بالجانب التشكيليّ للصورة السينمائية وإقامة تواشجاتٍ بصريّة بين الشعر والصورة، حتّى بدت المَشاهد للبعض وكأنّها لوحاتٌ تشكيليّة وقد أعاد صناعتها وابتكارها من خلال الكاميرا.