لقد رسم حجازي صورة دقيقة لمدينة يصعب القبض عن روحها والجزم أنّها مدينة القاهرة لكون القصيدة كانت أشبه بنشيدٍ حزينٍ عن فضاء المدينة في الحياة المعاصرة. لم يُحمّل حجازي مسؤولية تلك الغربة الموحشة لأحد، وإنّما جعلها تنساب هادئة من جسده لتغدو القصائد أشبه بطلقاتٍ فارغة في حقّ ما آلت إليه طباع البشر في أزمنتنا المعاصرة. لكنْ ما الذي يُمكن أنْ نقوله عن مدينةٍ مثل الفقيه بن صالح، التي طالما تغنّى بها الشاعر الراحل عبد الله راجع في اشعاره، سيما في ديوانه "الهجرة إلى المدن السفلى" وما شهدته في الآونة الأخيرة من تصدّع وتهميشِ ونسيان؟ بل ما الذي يُمكن قوله عن مدينة أسّست في القرن السادس عشر وذكرها المختار السوسي في كتابه "المعسول" وكتب عنها العديد من الكُتّاب المَغاربة، الذين عبروا حدودها وقُراها وأقاموا في أسواقها ورقصوا في أعراسها واستمتعوا بمساءاتها الحزينة، وهم يرتشفون كؤوساً من الشاي المنعنع، حتّى أضحت اليوم وكأنّها تعيش موتاً سابقاً عن وجودها؟
بالنسبة لنا نحن كأبناءٍ لهذه المدينة، نتلمّس عن كثب في كلّ زيارة مظاهر الظلم والألم التي تنخرها من الداخل، وتجعل كلّ عائدٍ أو سائحٍ لها، يهُمّ بمُغادرتها سريعاً، قبل أنْ تنهمر دموعه. فكيف يجوز أنْ تتحوّل مدينةٌ مثل الفقيه بن صالح ببركتها وعُمقها التاريخيّ وخيراتها الفلاحية وعذوبة أغانيها البدوية وجماليّة سكّانها إلى مرتعٍ للبطالة ومُختبرٍ للموت البطيء، ترى فيه الناس أمواتاً وهم أحياء، مرضى وهم في ريعان شبابهم، وبالتالي، كيف سيتمّ تنمية المدينة في أفقٍ عنيفٍ، تغدو فيها أوروبا المُتحكّم الوحيد في مصائر الناس وعائلاتهم؟
أثّرت الأزمة الاقتصادية التي شهدها العالم في سنة 2008 على أوضاع المدينة من الناحية الاقتصادية، فبسبب تراجع عملية التحويلات وفقدان المهاجرين لوظائفهم في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، بسبب تردّي الأوضاع، جعل أغلبهم يُفكّرون في العودة إلى المدينة وإقامة مشاريع تجارية صغيرة. لم يُعد هناك ما يستحقّ العيش من أجله، فالغلاء فاحشٌ والسياسات العمومية مُنهدّة ومُرتبكة في تفكيرها وطرق تسييرها لأوضاع المدينة من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية. فقرٌ مُدقع وبطالة فاقعةٌ، تكشف خللاً عميقاً في بنية تفكير المدينة. شبابٌ مُجتهدٌ ومُثابر، يعمل جاهداً على فرض نفسه معرفياً وتحصيل شواهد أكاديميّة عالية، غير أنّ الواقع سرعان ما يبتلع أحلامهم ويُحوّل عقولهم إلى تفكيرٍ سلبيّ يدور في مُجمله حول الهجرة إلى أوروبا.
وعلى الرغم من كون الهجرة، صوب مُدنٍ جديدةٍ وعوالم مُختلفةٍ، تُعدّ أمراً شرعياً ومُهمّاً في حياتهم الشخصية والعملية، بما يزيد ويُضاعف من فرص حصولهم على وظائف مُحترمة وتأسيس حياةٍ حقيقيةٍ، إلاّ أنّ أغلبهم يُفكّر في طرق أخرى للهجرة عن طريق المغامرة في البحر أو الزواج. ثمّة تناقضٌ قويّ بين الصورة التي يستكشفها الزائر العابر للمدينة خلال فصل الصيف، حيث يقوده الوهم إلى الاعتقاد بأنّ السيارات الفارهة التي تتجوّل وسط المدينة تُظهر غنى وبذخ ساكنتها، لكنّها في الحقيقة، لا تعكس سوى مرارة الهجرة، وقُدرة الشباب الذين غادروا المدينة مُبكّراً على إنقاذ أنفسهم من بؤسٍ وشيكٍ وحصلوا هناك على حياة جيّدة تعترف بوجودهم الحقيقي كبشرٍ. أمّا من لم يحالفهم الحظ في العبور إلى أوروبا، فإنّهم سرعان ما ينسحبون من حياتهم الدراسية ويستسلمون إلى رتابة اليوميّ داخل الأزقّة والمقاهي.
منذ مدخل المدينة تبدأ حكاية الغربة والألم. رجالٌ ونساء وأطفال يقضون فصل الصيف على أرصفة "خضراء" خارج المدينة. مشهدٌ مُحزنٌ أنْ تتحوّل هذه الفضاءات الخاصّة بالراجلين إلى أمكنة للاستلقاء، في غيابٍ تامّ لأماكن الاستجمام واللعب والترفيه وقضاء عطلة الصيف. وهذا أمرٌ لا علاقة له بالناس، فأغلبهم مُرهقٌ بسبب ارتفاع درجة الحرارة وصعوبة السفر صوب البحر, لذلك، فإنّ الجهة الوصية على هذا الشأن، لا تهتمّ بما فيه الكفاية بفضاءات الترفيه، إذْ لم تُعد الحدائق مصدراً للاستمتاع، أمام بروز فضاءاتٍ أخرى وعوالم جديدة أكثر قرباً من وجدان المغاربة.
لا توجد في الفقيه بن صالح اليوم أيّ رغبة في تحرير الشباب وتوفير فرص عملٍ لهم وإعادة تهيئة بعضهم عن طريق التكوين والدفع بهم صوب سوق الشغل، بما تتطلّبه من معرفةٍ وخبرةٍ في مجالاتٍ مُعيّنة. إنّ هشاشة تدبير السياسات المحلّية أصبح أمراً بيّناً ويتبدّى جيّداً في شوارعها وأزقّتها. مدينةٌ تشعر بحزنها وكآبتها ودموعها منذ مدخلها. إذْ ثمّة تفكيرٌ غالبٌ وسائدٌ في المخيال المجتمعي، إذْ تعتقد نسبة كبيرة من السكان أنّ الهجرة إلى أوروبا، تُشكّل عاملاً مُهمّاً لتحقيق استقرارٍ اجتماعي ورفاهٍ اقتصادي بالنسبة للشخص وعائلته.
وقد عمّر هذا النّمط من التفكير منذ بدايات الثمانينيات، حتّى غدت الأسر مشغولة بإرسال أبنائها إلى الخارج. لم يتمّ تنمية المدينة اقتصادياً عن طريق إنشاء معامل وشركات ومؤسّسات، بما يضمن للساكنة نمطاً من العيش الحديث. من ثمّ، فهي اليوم، لا تتوفّر على أيّ شيءٍ، إنّه فضاءٌ مسكونٌ بالفراغ. لا مؤسّسات ولا معاملٌ، فقطٌ شمسٌ حارّةٌ تلهب المسام وتحرق أجساد الأطفال وهم يستحمّون وسط نافورات الماء الموجودة وسط المدينة. قد يستغرب المرء أصلاً من استمرار وجود هذه المدينة ومن ملامح الحداثة المعمارية الباذخة الموجدة على واجهات منازلها وجماليّات سياراتها ومقاهيها. لكنْ بعيداً عن هذه الأشياء، لا تتوفّر المدينة على شيءٍ يستحقّ الذكر، بما يجعلها تتطوّر اقتصادياً من الداخل وتضمن عيشاً كريماً وحقيقياً لأطفالها وشبابها.