وذلك إمّا على شكل احتجاجات من لدن المجتمع المدني أو أحزابٍ سياسيّة يسارية، ظلّت المرأة إلى جانب القضية الفلسطينيّة، يشغلان برامجها ويُوجّهان فعل الرؤية من أجل تحرير الذاكرة اليوميّة من ماضيها العنيف، تجاه قضايا المرأة والجسد والتحرّر. والحقيقة أنّ هذه المسألة/ القضيّة، لم يتحكّم فيها الجدل السياسي أو مباهج الحداثة الاجتماعية، التي كانت تبرز بشكلٍ خفيّ داخل المجتمع، بل نعثر على الدور الجوهري الذي لعبه المُثقّف المغربيّ من خلال عشرات الروايات والدواوين الشعريّة والأفلام السينمائية والمسرحيات والمعارض التشكيليّة، حيث عمل على تفجير أسئلة المرأة في علاقتها بالإبداع والجسد والسياسة والفضاء العمومي.
وهي جملة تساؤلاتٍ أنطولوجية، بقيت مؤجّلة في تاريخ الثقافة المغربيّة الحديثة، ولم يكُن بإمكانها التغاضي عن هذه القضيّة، في وقتٍ خرجت المرأة لتقول كلمتها وتسحب خيط الكلام من الرجل. فظهرت منذ منتصف السبعينيات العديد من النساء المثقّفات اللواتي عملن على النضال سياسياً واجتماعياً وثقافياً وفنياً، انطلاقاً ممّا استحدثوه من أسئلةٍ فكريّة تتّصل ببعض قضايا المرأة وأسئلتها القلقة، تجاه الاجتماع بكل حمولاته الدّينية والتاريخيّة والأنثروبولوجية (العادات والتقاليد).
وإذا كانت المرأة المغربيّة، قد حقّقت مكانة مائزة في الزمن المعاصر، انطلاقاً ممّا راكمته من تجارب أدبيّة وفكريّة وغنائية، فإنّ المرأة البسيطة، لم تستطع أنْ تُحقّق شيئاً يُذكر، بسبب تزايد السُلطة الذكورية ومُختلف أشكال العنف الرمزي داخل البيت والمدرسة والشارع. إذْ على الرغم من مباهج الحداثة التي بلورتها الثقافة المغربيّة، لم تستطع هذه الحداثة، بكل حمولاتها الغربيّة والكونية اختراق الواقع المغربيّ، من خلال تغيير العقليات والتكسير من حدّة الذكورة المُستشرية في المجتمع، والتي تجعل من الرجل يعيش وهم التملّك.
لذلك، فإنّ معايير الجمال التي نطلقها عادة على المرأة، لا يُمكن النّظر إليها بمعزلٍ عن السُلطة الذكورية، باعتبارها سُلطة خفيّة عملت على تأجيج مفاهيم الذوق وفرض معايير وسمات الجمال للمرأة.
وإذا عُدنا إلى التاريخ الوسيط، سنجد أنّ المرأة "البدينة" تمتلك حظاً وافراً من ناحية الزواج، مقارنة بالمرأة "النحيفة"، التي لم يكُن الرجال يُطيقون الزواج بها. ورغم أنّ المصادر التاريخيّة الوسيطية، تتكتّم عن ذلك وتقف عند حدود مواصفات جمال المرأة، فإنّها ظلّت تتستّر من جهةٍ أخرى، عن مواضعات تحديد هذه الصفات والثُنائيات من لدن الرجل، إذْ لم تعمل هذه المصادر، على تكثيف القول في من وضع هذه الشروط ومقاساتها، أمام ما تُسجّله المرويات التاريخيّة من دورٍ مركزيّ للعديد من النساء اللواتي لعبن أدواراً طلائعية في التاريخ العربي الإسلامي وتميزن بالفطنة والذكاء والشجاعة في قول الحقيقة والدفاع عن الحقّ لحظة السلم والحرب.
لكنْ، إلى جانب المكانة السياسيّة التي حظيت بها المرأة، نجد أنّ الكثير من النساء المثقّفات عملن على تحقيق الشهرة في مجالات تتعلّق بالثقافة والفنّ والاقتصاد، لكنْ مع ذلك، لم تتوقّف السُلطة الذكورية على مواصلة سُلطتها في التفكير بالمرأة والزجّ بها في غياهب التاريخ، وجعلها مجرّد أداة تخدم مصالحه الشخصية، دون أيّ احترامٍ لمبادئها ومكانتها الكبيرة، بوصفها روحاً حرّة وجسداً شخصياً وتفكيراً مستقّلاً عن الرجل، ولا يجوز أنْ يربط مصلحته بها مهما كانت طبيعة علاقتهما.
فهذا التملّك، يُفسد علاقتنا بالمرأة ويجعلنا نعود في تفكيرنا وسلوكنا إلى أزمنةٍ قديمةٍ. ولا شكّ أنّ المُتتبّع ليوميات المجتمع وأحداثه، سيتلمّس بعمق العنف الخفيّ المُمَارس ضدّ المرأة. إنّه واقعٌ منكوبٌ، لا تُظهر حقيقته سوى الإحصاءات الرسمية والتقارير الصحافية وبيانات المؤسّسات الاجتماعية، التي تُؤكّد حقيقة تفاقم الظاهرة وذيوعها داخل البوادي والمدن.
نجحت السوسيولوجية الراحلة فاطمة المرنيسي، في الكشف عن العنف الممارس على المرأة في مناطق متعدّدة من المغرب. وإنْ كانت الظاهرة كونية، لا ترتبط بجغرافية مُحدّدة، لكنّها تتزايد أكثر ويطفح وهجُها إلى السطح داخل بلدان العالم الثالث أو البلدان التي يقلّ فيها منسوب الوعي الثقافي الحيوي بقيمة المرأة ودورها المركزيّ في طبيعة الحياة اليوميّة.
وقد مزجت فاطمة المرنيسي في سيرتها الفكرية بين النضال اليومي المباشر في جمعيات المجتمع المدني بعددٍ من المناطق الجنوبية، وبين التنظير الفكري عبر بلورتها لمفهوم "الحريم" وتفكيك الأنساق الفكريّة التي ساهمت في تأجيجه وبروزه كمفهوم قادرٍ على تأسيس خطاب حول المرأة في علاقتها بتمثّلات التاريخ العربيّ الإسلامي. وشكّل هذا المفهوم مع فاطمة المرنيسي (وغيرها) خرقاً معرفياً داخل الكتابات السوسيولوجية لدرجةٍ أضحى معها الحديث عن سوسيولوجيا تهتم بالمرأة وتعمل جاهدة على إحداث تقاطعاتٍ مع مجالاتٍ أخرى تتعلّق بالأنثروبولوجيا والتاريخ والقانون وعلم النفس، سيما في كتابها "نساءٌ على أجنحة الحلم". ما جعل الموضوع يأخذ صبغة جدية ويدعو دوماً إلى إقامة ندواتٍ ومُناظرات مُخصّصة لتشريح العلاقة بين الذكورة وعلاقتها بالموروث التاريخيّ ومدى امتداد هذا المكبوث الاجتماعي داخل الحياة المعاصرة في المغرب.