لا كصانع للأحداث السياسيّة والعسكرية ولا كمُؤثّر في قوانينها الدولية، وإنّما كمجالٍ جغرافي، ظلّ منذ بدايات القرن التاسع عشر، فضاءاً خصباً في نظر المستعمر. وذلك بحكم أنّ موقعه الجغرافي الكبير ومؤهّلاته الطبيعية، جعلاه فضاءاً مرغوباً فيه بشدّة من لدن الفرنسيين والإسبان. وإذا كان الربع الأوّل من القرن العشرين يُحيل في الأدبيّات التاريخيّة إلى مرحلةٍ هامّة ترتبط بسلسلة مُفاوضاتٍ ومؤتمراتٍ وسياسات خارجية بالنسبة للمغرب، قبل المرور إلى مرحلة الاحتلال العسكري وما رافقها من مقاومةٍ وتسلّح، تبقى الأولى تطرح علينا جملة من الأسئلة حول مصير الدبلوماسية المغربيّة في هذه المرحلة وخصائصها وميكانيزماتها.
كل هذا في وقتٍ دعت فيه الضرورة العسكرية إلى عقد مؤتمرات دولية، كان أبرزها مؤتمر "الجزيرة الخضراء" سنة 1906 الذي شكّل نقطة ضعفٍ في تاريخ العلاقات المغربيّة خلال القرن الـ 20 لدرجةٍ جعلت سياسياً كبيراً مثل الحجوي يعتذر عن المشاركة في هذا المؤتمر، بحكم فطنته إلى عدم قُدرة المفاوضين المغاربة على مسايرة طبيعة الخطابات السياسيّة المركزيّة وقوانينها الدولية، وأنّ أغلبهم لا يُجيد التحدّث بأيّ لغةٍ أجنبية أخرى. ما دفعه إلى اعتبار أنّ ذهابهم إلى المؤتمر سيجعلهم أشبه بالبكم. لكنْ بغض النّظر عن رفض الحجوي والأسباب الخفيّة التي دفعتهم إلى عدم المشاركة، فإنّ هذا الحدث السياسي، قد وضع الدبلوماسية المغربيّة في بدايات القرن العشرين على المحكّ، وجعلها تبدو بمظهرٍ هشّ، مقارنة بباقي القوى الأوروبية التي اجتمعت في المؤتمر من أجل تقرير مصير المغرب كمُستعمرةٍ تتقاسمها فرنسا وإسبانيا. لكنْ، بعيداً عن البنود السياسيّة والعسكرية التي جاء بها المؤتمر، ظلّت الدبلوماسية خلال بدايات القرن العشرين مُرتبكة وخاضعة في مُنطلقاتها واشتغالها إلى القوى الاستعمارية، التي كان من الصعب اجتراح أفق دبلوماسي مغاير تحت وطئة الاحتلال.
لقد قطعت الدبلوماسية المغربيّة أشواطاً طويلة، حقّقت فيها اليوم مكانة مميّزة وغدت تمتلك من المؤهّلات الدبلوماسية، ما يجعلها رائدة وقويّة داخل إفريقيا، بحكم العلاقات الخفيّة التي تنسجها دول الجوار وقُدرتها على خلق استثماراتٍ اقتصادية بعددٍ من الدول، بما يضمن وجودها السياسيّ القويّ ومكانتها الرمزيّة / التاريخيّة مع بعض البلدان في سبيل تحقيق نهضةٍ اقتصاديةٍ، تقوم على السلم وحرّية تنقّل الأفراد والمصالح الاقتصادية المشتركة. من ثمّ، فإنّ سياسة تجديد أواصر الصداقة مع الدول الإفريقية وإقامة شراكاتٍ اقتصادية بين البلدين، جعلت المغرب قوّة دبلوماسية صاعدة وصلبة وتمتلك رؤية مستقبلية، مادام المغرب، قد فطن في السنوات الأخيرة، إلى التحوّلات الجيو سياسية الدولية وضرورة الدخول في متاهات وقائعها من أجل فرض نفسه، باعتباره دولة غنيّة تمتلك من العمق التاريخي الحضاري والوعي الثقافي، ما يجعلها في طليعة البلدان العربيّة، التي حقّقت تميّزاً دبلوماسياً واضح المعالم والأفق على خارطة العالم السياسيّة، وقُدرته على المُشاركة في حلّ النزاعات الدولية وتدبير أزماتها السياسيّة، التي تعترض سير وتقدّم بعض البلدان العربيّة.
على مدار تاريخ البشرية ظلّ الفنّ بكافة ألوانه ومشاربه وتعبيراته وكأنّه سرديّة أسطورية تُخلّص الناس من بؤسها وشقائها وتدفعهم صوب الإبداع والتعبير عن الجرح الكامن فيهم، كما هو الحال مع الفنون القديمة على الصخر والجدران والمغارات، لكونها تُشكّل وثيقة تاريخيّة بصريّة بالنسبة للإنسان المعاصر، تسعفه على قراءة تاريخ الأجساد والعقليات والنفوس، كما تُقدّم له وصفة جاهزة للحياة اليوميّة خلال ما قبل التاريخ ومعيار الذوق الجمالي العام. وعلى الرغم من الطابع التجريدي الذي يُميّز العملية الفنّية، فإنّ الفنّ عموماً قد لعب دوراً بارزاً، تجاوز هواجس التعبير والوثيقة والجمال، حيث غدا يُوطّد العلاقات بين القبائل ويساهم في خلق شكلٍ من أشكال المُثاقفة التلقائية (مقابل المفروضة من لدن الاستعمار) بين الشعوب وانصهار بعضها ببعض. لكنْ في الحقبة الوسيطية داخل العالم العربي، لم تعُد الممارسة الفنّية ذات علاقة وجوديّة ترتبط بذاتية الإنسان ورغبته الكبيرة في التعبير، وإنّما أصبحت ذات علاقة مادّية تُفسّر مختلف ملامح الأوج الذي تصل إليه الدولة لحظة حكمها.
وإلى جانب الدبلوماسية الرسميّة، استطاعت نظيرتها الموازية اجتراح صورة مغايرة للبلد، حيث عملت التعبيرات الفنّية بمُختلف أشكالها ورموزها، على خلق دينامية قويّة للتمثيل الدبلوماسي، بعد ما غدا يتوفّر اليوم على كثيرٍ من الملاحق الثقافيّة داخل المسلك الدبلوماسي، باعتبارها تُساهم في تنشيط العمل الدبلوماسي وتمنحه الزخم والقوّة والعمق الثقافي. خاصّة وأنّ بعض الفنون البصريّة المعاصرة (السينما مثلاً) تُعدّ من أكبر وسائل التواصل قُدرة على التأثير في نفوس الناس ومُتخيّلهم، على اعتبار أنّ الفنّ السابع يمتلك على مُستوى وسيطه البصريّ قُدرة كبيرة على التأثير في الناس، وجعلهم ينصاعون إلى سحر الصورة السينمائية وإمكاناتها التخييلية.
غير أنّ هذا السحر الجماليّ، لا يظلّ دوماً حكراً على الجانب العمل الفنّي وأبعاده الفكريّة ودلالاته الجماليّة، وإنّما يكتسح كافّة الممارسات السياسيّة وتمثيلاتها الدبلوماسية، لأنّ السينما قادرة بجماليّاتها على خلق صداقة دبلوماسية قوامها الخلق الجمالي، خاصّة وأنّ مهرجاناتها الفنّية، تُعتبر في الحقبة المعاصرة وسيلة للترويج الثقافي للبلد في إطار ما يُسمّى بالدبلوماسية الموازية، التي تعمل فيها الأحزاب السياسيّة والجمعيات الثقافيّة والمهرجانات الفنّية على المُساهمة في تنشيط الصورة الدبلوماسية للمغرب، كما هو لعددٍ من أدوارٍ طلائعية لعبتها بعض المهرجانات السينمائية المغربيّة وغدت تمتلك مكانة مركزيّة في التعريف بتراث البلد كنوعٍ العمل الدبلوماسي المُوازي، الذي يقوم على استعراض العمق التاريخيّ والرأسمال الرمزيّ الذي يحبل به المغرب، والذي يجعله رائداً في هذا المجال.
فقد كشفت عدّة أبحاث قانونية عن المكانة التي غدا يحبل بها الفنّ المغربيّ في تنشيط المجال الدبلوماسي، مع العلم أنّ الكثير من البلدان العربيّة، لا تتوفّر على مؤهّلات فنّية ضاربة في القدم، بما يجعل دبلوماسيتها الموازية قويّة البُنيان وشامخة التشييد. فالمغرب وبحكم موقعه الجغرافي وحضارته العريقة، كان قادراً على الاستثمار في هذا البُعد الرمزيّ وجعله وسيلة للتواصل وتوطيد علاقاته الدولية مع عددٍ من البلدان، التي تحضر اليوم داخل مهرجاناتٍ سينمائية مغربيّة، باعتبارها ضيفة شرف، وهذا ما يجعلها العلاقة بين البلدين تتّخذ صبغة دبلوماسية، تقوم على عرض أفلام بعضها البعض ومنح الجوائز تنوّع الخبرات وتوقيع الشراكات وتبادل الهدايا والاعتراف بسيادة بعضهما البعض.