ومع ذلك، فقد ظلّ يُخيّل إليّ لسنواتٍ طويلةٍ، أنّي التقيت بمحمّد شبعة مرات ومرات وسافرت معه صوب فضاءاتٍ جماليّة بعيدةٍ ومُتخيّلة، معاً زرنا مدارس وأساليب وتيارات، وطُفنا على منحدراتٍ لم نحدس بجماليّاتها، معاً عبرنا تلال السياسة واحتمينا بنارها داخل سند اللوحة. لم تكُن علاقتي بمحمّد شبعة إلاّ مُتخيّلة وذات بُعدٍ رمزيّ، فمن خلال مقالاته الفنّية داخل المجلات المشرقية تعلمت قراءة اللوحة، وكيف يُمكن للنقد أنْ يغدو أكبر من كونه وسيطاً بين الفنّان والجمهور. غير أنّ تلك القراءات الأولى البعيدة غذّت عندي رغبة أنطولوجية في اقتحام براديغم الصورة الفنّية وما يتّصل بها من تشكيل وسينما وفوتوغرافيا، لكنّها وضعتني من جهة أخرى، في مقابل بعض مآزق وإشكالات الثقافة المغربيّة وكيف أنّ الصورة مازالت مُغيّبة لأسباب دينية ذات علاقة بالعداء التاريخي الذي خصّه بعض الفقهاء المغاربة لمفهوم الصورة، رغم أنّها حاضرة في وجدان الوعي الجمعي وفي صناعة التفاهة داخل المجال التداولي العام. وعلى الرغم من بساطة الكتابة عند محمّد شبعة، إلاّ أنّ تحليله كان قوياً، إذْ تستطيع كتاباته أنْ تكون بيداغوجية وقادرة في آنٍ واحدٍ على احتضان القارئ ووضعه في مناخاتٍ صحّية وعلاماتٍ مُميّزة من تاريخ التشكيل العربيّ، لكنّها تستطيع أيضاً خلق حالة من الثورة المعرفية في ذاتية القارئ، حيث تجعله يثور على كلّ قراءاته السابقة في النظرية الجماليّة والذوق الفنّي.
لم ألتقي يوماً بمحمّد شبعة، لكنّه ظلّ قريباً من جسدي ومشاغلي وتفكيري، سيما وأنّ شبعة يُعدّ أكثر التشكيليين المغاربة شهرة في المشرق العربيّ خلال التسعينيات، وذلك بسبب ذيوع أعماله التشكيليّة بشكلٍ هستيري على كُتيّبات وجرائد ومجلاّت كانت تصدر بالمشرق. لم أرى لوحة واحدة في طفولتي، بالنّظر إلى طفل عاش في عائلة الفلاّحين المهاجرين دوماً صوب إيطاليا وإسبانيا بحثاً عن الخبز. لكنّ وصول بعض المجلاّت العربيّة آنذاك، جعلني أعشق عالم الصورة ومُتخيّلها البصريّ. فالوجود بالنسبة لي، لم يكُن إلاّ عبارة عن صورة مُتخيّلة، وإنْ كان واقعنا "الحقيقي" يتجاوز في أحداثه وفانتازيته الخيال نفسه. لقد بقيت لوحات شبعة المُلوّنة، تُظلّل طفولتي البعيدة بمدينةٍ مُستيقظة من العدم، ونازحة من أقصى الريح، بوجعها السرمدي وبغبارها الناصع البياض. ذلك أنّ أعماله لم تكُن بالنسبة لي مجرّد لوحاتٍ تشكيليّة مزخرفة تمنح طفولتي البهجة والراحة، وإنّما مدخلاً حقيقياً، صوب ثقافة تشكيليّة قويّة جعلني محمّد شبعة في داخلها وأعيش جراحها وأنا طفل، ومن خلالها نسجت جملة من الصداقات الجميلة مع كبار التشكيليين العرب الذين حرّروا ذاكرتي من الثقافة الشفهية وزجّوا بي في أحضان الصورة وعوالمها الساحرة.
جمع محمّد شبعة بين صلابة التكوين الأكاديمي وسحر ذائقة جماليّة تُرمّم بشاعة العالم، وتُعيد تشكيله على جسد اللوحة المسندية. ولاشكّ أنّ هذا الزخم في تطويع الذائقة المعرفية يعود أساساً إلى ذاته المُتعدّدة وقُدرته على إقامة ثورة داخلية تُكسّر الجاهز من الأشكال، من أجل البحث عن منافذ ورؤى فنّية جديدة، كما هو الحال في تجربته البصريّة، التي عمل فيها على منح التجربة التشكيليّة المغربيّة أفقاً جمالياً جديداً بالنّظر إلى ما كان موجوداً في الساحة الفنّية آنذاك. لقد فتحت أعمال شبعة من الناحية الجماليّة، قارة كانت مفقودة داخل التشكيل المغربي، حيث سيعمل إلى جانب كلّ من أحمد الشرقاوي ومحمّد المليحي وفريد بلكاهية على فتح مختبرٍ بصريّ مُغايرٍ للتشكيل المغربيّ، حيث ستكون مجلّة "أنفاس" التي كان يديرها الشاعر عبد اللطيف اللعبي، بمثابة سندٍ ثقافي سيحتضن هذه الثورة الجماليّة المُنفتحة على التجريب والأكثر تعلّقاً بالهويّة العربيّة والذات وآلامها ومواجعها، دون استحضار للوجود الغربي داخل اللوحة المسندية.
كانت هذه المرحلة جد مُؤسّسة في مسار التشكيل المغربيّ، لأنّها جعلته يتحرّر من التنميط الغربيّ وشجونه، وبلورت بموجبه مشروعاً بصرياً قائماً على التراث المغربيّ وذاكرته، بعدما عملوا على النهل من منابع الصناعة التقليدية وفنون العمارة وزخارفها، بحيث غدت هذه المراجع البصريّة، بما تحمله من تاريخٍ ودلالاتٍ وصُوَرٍ ورموز، مصدراً هامّاً لهؤلاء الفنّانين وهم يعيدون نسج علاقةٍ جديدةٍ مع تاريخهم، رغم أنّ لوحات محمّد شبعة بقيت مُتحرّرة من أيّ بُعدٍ حرفيّ، كما هو الحال في أعمال فريد بلكاهية على جمالها وألقها ورونقها.
والحقيقة أنّ محمّد شبعة ذهب إلى أبعد من ذلك، عاملاً على استحضار مفهوم العلامة، باعتبارها براديغماً فكرياً سيُؤسّس مسار وعي الفنّان في علاقته بالحداثة التشكيليّة. لقد ثار محمّد شبعة وقبله جيل الفنّ الفطري على الاستشراق، بعدما قاموا بثورة جماليّة تتجاوز الأفق المُغلق الذي نحتته رسومات المستشرقين، فشكّل السفر خارج المغرب قفزة نوعية في مسار تحديث الفنّ التشكيليّ المغربيّ، لأنّه جعل الفنّان يُفكّر في ضرورة تعلّم أنماطٍ جديدة من فنون الرسم، غير تلك التي برع فيها الاستشراق، قبل أنْ يعودوا إلى المغرب ويدخلون في رحلة البحث عن الذات، من خلال تأسيس مشروع تشكيليّ لا يقيم في المُتخيّل الغربيّ، ولا يُخوّل لنفسه العيش في غيبوبة التاريخ وسراديب الذاكرة.
ورغم أنّ التراث الغربي، ظلّ بشكلٍ من الأشكال حاضراً على مُستوى التقنية، إلاّ أنّ أعمال محمّد شبعة، كانت تُعبّر وبقوّة عن مفهوم الهويّة، بل إنّها بقيت أشبه بصرخةٍ جماليّة بالنسبة للآخر. فمنذ منتصف ثمانينيات القرن الـ20 تحرّرت لوحاته من الآخر، وغدت أكثر نقاءً وفتنة، وهي تستحضر علاماتٍ مُتعدّدة من التاريخ العربيّ وتُحوّلها إلى هويّة بصريّة قائمة الذات، غير أنّ هذه المراجع البصريّة العربيّة، لم تكُن إلاّ عبارة عن مؤثّرات فنّية في بنية العمل الفنّي عند شبعة، إلاّ أنّ الأهمّ كان يتمثّل في إمكانية خلق تجربة تشكيليّة تنطلق من خصوصياتٍ عربيّة، لكنّها سرعان ما تخترق آفاق العالمية، لما تمتلكه من مُقوّمات فنّية وخصائص جماليّة، ما يجعلها مشروعاً بصرياً قائم الذات داخل جدارية التشكيل المغربي.
محزنٌ حقّاً أنْ تُنسى أعمال محمّد شبعة داخل المَشهد الفنّي العربيّ، في وقتٍ يتكاثر فيه العطب وتنسحب عبره التجارب التشكيليّة الجادّة المؤسّسة إلى الخلف. ذلك أنّ لوحاته ماتزال تفرض نفسها بقوّة على الجماليّة المعاصرة، لأنّها لا تتوقّف عن طرح أسئلة الذات والهويّة والذاكرة والتاريخ في مسار التشكيل المغربيّ. لكنْ بعيداً عن التحوّلات التي ألمّت بمفهوم الفنّ العربيّ المعاصر والذوق الجمالي عامّة وظهور تجارب تشكيليّة جديدة تشتغل وفق منظورٍ بصريّ مُغايرٍ، لا ينبغي نسيان فنّان كبير مثل محمّد شبعة، لأنّ الرجل قدّم خدمات جليلة للثقافة المغربيّة وأخرجها من براثن التقليد الذي كانت عائمة فيه، عاملاً على تجميلها ووضعها داخل مختبر فكرٍ بصريّ حداثي، عبر جملة من المقالات والندوات وأغلفة الكتب والمجلاّت، هذا إضافة إلى عشرات الطلبة الذين تعلّموا منه معنى الثقافة البصريّة داخل المدارس والمعاهد في زمنٍ سادت فيه السلفية الثقافيّة والتأخّر التاريخيّ. لكنْ لماذا تتنكّر الثقافة المغربيّة المعاصرة لفنّان في حجم شبعة؟ ولماذا إلى اليوم لم نرى أيّ مُحاولة لإقامة مؤسّسة تضمن تراث الرجل الفنّي وتعُدّ صُوَره وكتاباته ولوحاته ورحلاته في درب الكتابة والفنّ؟
لسنواتٍ طويلةٍ، ظلّ محمّد شبعة حاضراً داخل الثقافة المغربيّة، لا باعتباره فناناً تشكيلياً فقط، وإنّما كمُثقّف غرامشي (عضوي) وحداثي قادرٌ دوماً، على خلق جدلٍ بتصريحاته الإعلامية وحواراته الغنيّة ومقالات العميقة ومعارضه الفنّية المُميّزة. يحتاج شبعة اليوم إلى مؤسّسة فنّية ترعى تراثه وتُشجّع الأجيال الجديدة على الاستثمار الجماليّ في أعماله وكتاباته وحفظ كلّ وثائقه وتقديم الدعم للباحثين العرب من أجل البحث والكتابة والتأمّل في المسار الفنّي لهذا الفنّان الاستثنائي الذي جعل من العلامة هويّة تشكيليّة عربيّة، تدين كلّ أشكال التهجير الفنّي والاستيلاب الثقافي الذي نحته الاستعمار وكرّسته العولمة بمُختلف أشكالها ومظاهرها وتنميطاتها القاهرة للهوية والحدود.