في هذه الزاوية الأسبوعية الجديدة، يلتقي Le360، بجملة من كبار الكتاب والشعراء والفنّانين والمخرجين من العالم العربيّ، ممن أُتيحت لهم الفرصة لزيارة للقراءة عن المغرب أو الإقامة فيه أو حتّى المرور عبره إلى أمكنةٍ أخرى، من أجل تقديم صورة جماليّة بانورامية خارجية عن البلد وعُمق عاداته وروعة تقاليده وحداثة ثقافته وجماليّات فنونه وما مارسه منذ سبعينيات القرن الـ 20 من سحرٍ على تفكيرهم وأجسادهم ومُتخيّلهم وجعلهم يحلمون ويتطلّعون أكثر إلى الالتحام بالواقع المغربيّ وتاريخه من أجل التفكير والكتابة والإبداع والابتكار.
إنّ الزاوية ليست مجرّد سفرٍ في الأمكنة والفضاءات والجغرافيا عموماً، وإنّما سفرٌ عميقٌ في سراديب الجسد وأحراش الذاكرة. سفرٌ ضاربٌ في عمق الثقافة والفنّ ودهشة السؤال. هنا يتحرّر العقل من صرامته الوجودية القهرية ويُطلق الجسد العنان أكثر لمُتخيّله ومشاعره وأحاسيسه في التعرّف على ثقافة الآخر وفنونه، حتّى يتمرّدان على صبغة العقل المنطقية ويُقدّمان معاً صورة ثقافيّة نوسطالجية عن أواصر الصداقة والحب التي انتسجت منذ منتصف القرن الـ 20 بين المغرب والمشرق.
الحلقة الـ 7 من هذه الزاوية الأسبوعية، مع الكاتب والروائي شكري المبخوت، وهو من الأسماء التونسية الوازنة، التي تُجدّد بكتاباتها وطروحاتها وضعية الثقافة داخل المجال التداول المغاربيّ. وتتمتّع كتاباته بجرأة في طرح العديد من القضايا والإشكالات ذات العلاقة بالتاريخ المغاربي، كما هو الشأن مع كتابه "تاريخ التكفير في تونس" أو روايته المُذهلة "الطلياني" التي جعلت شكري المبخوت أكثر شهرة وإقبالاً على كتاباته الأدبيّة النوعية، بعد أن فازت الرواية بجائزة البوكر وتُتوّجه كأوّل كاتب تونسي يفوز بهذه الجائزة الخاصّة بالتخييل الروائي.
بداية، ما الأسباب الوجدانية والمعرفية، التي ساهمت في سيرة وتشكيل وعيكم وسفركم صوب المغرب؟
بدأت علاقتي بالمغرب معرفيّة على نحو غير مباشر من خلال الاطلاع وانا طالب على كتابات مغربيّة في الأدب والنقد والفلسفة. ولكن بعد إصداري كتابي الأوّل عن السيرة الذاتيّة في أيّام طه حسين تلقيت دعوة من كلية الآداب بجامعة اكادير للمشاركة في ندوة عن الأدب الشخصيّ. أشرف على تنظيمها أستاذ شابّ كان وقتها في سنّي هو رئيس جامعة اكادير بعد سنوات من ذلك، أقصد طبعا عمر حلّي. فبدأت العلاقة المباشرة. وخلال هذه الندوة العلميّة التي شارك فيها كثيرون منهم عبد الفتاح كليطو وعبد القادر الشاوي علاوة على شباب من جامعة أكادير.
فعلاقتي إذن بالمغرب انطلقت من جامعة أكادير لأسباب معرفيّة وعلميّة ثمّ تطوّرت إلى صداقات مع أحبّة مازالت الأواصر قائمة بيننا إلى الآن. ولكنّني اعرف مدنا أخرى في المغرب زرتها دوما للمشاركة في ندوات وملتقيات ومناشط أدبيّة واعرف جلّ اعلام الأدب والثقافة والبحث اللغويّ والفلسفيّ في المغرب.
هل يُمكن أنْ نستلهم هنا عبارة محمود درويش المُدهشة: الطريق إلى البيت أجمل من الوصول إليه. كيف كان طريقكم إلى المغرب؟
نعم الطريق (وهي في الحقيقة طرق لا طريق واحدة) إلى بيت الفكر والأدب والثقافة المغربيّ كان جميلا وخاضعا للصدفة في أغلب الأحيان ولكنّ الوصول كان أجمل. فلولا ذلك لما توطّدت علاقات إنسانيّة ووجدانيّة عديدة مهمّة مثرية مبهجة. وعموما ليس من الصعب على التونسيين والمغاربة أن يجدوا بسرعة مذهلة أساسا متينا لقيام صداقات حقيقيّة نظرا إلى الانسجام في التكوين العام والمختصّ والمنطلقات الفكريّة وتقارب النفسيّات.
ما الرؤى والأحلام والاستيهامات، التي اجتاحت مُخيّلتكم ورافقت رحلتكم صوب المغرب؟
أهمّ شيء في العلاقات العلميّة هو الفضول المعرفي والاحتكاك الفكري ليقيس المرء الحاصل عنده بالحاصل لدى غيره عسى أن تتلاقح الأفكار فتولد من ذلك أفكار جديدة. ولكنّ توجد في الصداقات في بدايتها بهجة التعرّف على الآخر الذي يصبح تعارفا ومودّة ومحبّة تثري البعد الإنسانيّ الراقي. وهو ما يحرّك الصداقات بين التونسيّين والمغاربة في كلا البلدين. ولم تزد التطوّرات في العالم الرقمي هذه الصداقات إلا متانة فأنا على اتصال مستمر يكاد يكون يوميّا مع الأستاذ الأديب احمد المديني على سبيل الذكر لا الحصر.
شكّل المغرب حلقة هامّة ضمن مسار تحديث الثقافة العربيّة المعاصرة، لما ظلّ يلعبه من دورٍ فعّال في تقوية أواصر السؤال والصداقة والفكر مع المشرق العربي. من موقعكم البحثي/ الأدبي/ الفنّي، كيف ترون وتُقيّمون راهن الثقافة والفنون في مغرب اليوم؟
أرى وجوه التقاء وائتلاف كثيرة بين الثقافة المغربيّة والثقافة التونسيّة من جهة التوجّه التحديثيّ. وهو توجّه يقوم على اختراق التمثّلات السائدة بأسلوب مميّز سرعان ما يجد في المشرق صدى طيّبا. ومع ذلك هناك خصوصيّات وبصمات لكلا الثقافتين تجعلهما تتبادلان الأسئلة بقدر ما تشتركان في الكثير منها فتختلفان ضمن توجّه مشترك متعدّد وإن لم يكن منمّطا. وعموما من الصعب الحكم على راهن الثقافة في المغرب كما في تونس ولكن من الثابت وجود ديناميكيّة مّا لم تصدر عن فراغ وهي متواصلة أرجو ان تضيف فعلا حلقات جديدة من المسار المركّب للثقافة العربيّة المعاصرة.
هل شعرتم يوماً بأنّ الثقافة المغربيّة، تُعدّ امتداداً عميقاً لباقي الثقافات الأخرى المُنتَجة بالعالم العربي، بحكم ذلك التمازج المُتوهّج الذي رافقها منذ سبعينيات القرن الـ 20؟
أعتقد أن الثقافة العربيّة متعدّدة الروافد ومنها الرافد المغربيّ. ولكل رافد خصائص مميّزة. فثمّة ضرب من الامتداد والإسناد المتبادل ولكن لا اظنّه مرتبطا بالسبعينات تحديدا. بل هو اسبق بكثير حين كانت الثقافتان المغربيّة والتونسيّة تعيشان مفارقة غريبة بعض الشيء. وجهها الأوّل شعور بالتتلمذ إلى حدّ الدونيّة على المشرق خصوصا المركزين الأساسيّين مصر ولبنان ووجهها الثاني شعور عميق بضرورة الخروج من موضع الهامشيّة بإزاء هذين المركزين والاستقلال عنهما ليكون لهما إسهامها من موقع التميّز الثقافيّ. وهو أمر تحدّث عنه بوضوح أبو القاسم الشابّي في رسائله خاصّة متذمّرا من الهيمنة المصريّة أساسا حالما بمشروع تونسي وساعيا في الوقت نفسه إلى الكشف عن مميّزات الثقافة المغربيّة والثقافة التونسيّة.
وأكبر ظنّي أن السبعينات وخصوصا الثمانينات من القرن العشرين مثّلتا انعطافة مهمّة لبروز الخصوصيّة المغربيّة داخل الثقافة العربيّة في التفكير الفلسفي والأدبيّ وفي الإبداع عموما. يكفي ان نعود إلى أعلام الثقافة المغربيّة من عبد الله العروي والجابري وغيرهما إلى محمّد برّادة وعبد الفتاح كليطو وغيرهما تمثيلا لا حصرا حتّى نرى الصوت الجديد المتفرّد الذي أثرى الثقافة العربيّة وطرح عليها أسئلة مهمّة لم تطرحها من قبل. والمفارقة انّ هذه الثقافة المغربيّة وجدت طريقها البكر إلى الثقافة العربيّة عبر دور النشر الشرقيّة وخصوصا منها اللبنانيّة.
ما مدى تأثير الإنتاج المغربيّ على خصوصيات ثقافتكم، فكراً وأدباً وفناً؟ وهل تعتقدون أنّ ملامح هذا التأثير، تبدو بارزة وبشكلٍ قويّ داخل ثقافتكم وفنونكم في الحقبة المعاصرة؟
كنت اتحدّث عن التقاء المهج بين التونسيّين والمغاربة وعن الاشتراك في التكوين والخلفيّات العامّة ولا اشكّ في انّ الإنتاج الفكري والنقديّ المغربي بالخصوص قد أثّر في التونسيّين ولكنّني لا أشكّ أيضا في العمليّة المعاكسة. ربّما كان الفارق كمّيّا يرتبط بمدى انتشار الفكر والنقد والإبداع التونسيّ عبر وسيط النشر المشرقي لكنّه في جميع الحالات كان التاثير المتبادل حاصلا لأن التقارب الفكري والمنهجي والجمالي كبير جدّا. بيد أنّ ما تطرحه في سؤالك لا يُكتفى فيه بالانطباع بل يحتاج إلى بحث دقيق في هذه التأثيرات وانعكاساتها.
لكنْ، حين تسمعون المغرب، ما أوّل شيء يتبادر إلى أذهانكم؟
المسألة شخصيّة جدا ومتعدّدة المستويات. من ذلك مثلا تلفت انتباهي هذه الرغبة القويّة في تحديث الفكر العربيّ ومنها المقترحات الفلسفيّة التي قدّمها المغرب المعرَّب في تدريسه لهذا الاختصاص ومنها نزعة العمل على إبراز الخصوصيّة المغربيّة ومنها السعي إلى التناول المنهجي للمسائل برؤية حديثة.
هل تعتقدون أنّ الصُوَر والرؤى والأحلام والتمثّلات، التي نُكوّنها عن بلد ما، تكون صادقة لحظة الاصطدام بالواقع الحقيقي وعاداته وتقاليده وثقافته وفنونه؟
شخصيّا لم اجد فوارق جذريّة بين التمثّلات التي حصلت لي سماعا وما عاينته شخصيّا في رحلاتي على المغرب. ربّما تعود المسألة على أن العلاقات التونسيّة المغربيّة متجذّرة أكثر مما نتصوّر والفكرة عن المغرب مندرجة ضمن التصوّرات التونسيّة بقوّة.
ما المُدن والفضاءات التي قُمتم بزيارتها أو عشتم داخلها في المغرب لسنواتٍ، لكنّها ساهمت في تغذية ذواتكم وتفكيركم ومُتخيّلكم في سنواتٍ أخرى لاحقة؟
مثلما ذكرت لك من قبل مبتدأ المغرب عندي هو أكادير المدينة والجامعة ونخبها، ثم كانت الرباط والدار البيضاء والجديدة ووجدة وغيرها من المدن. وربّما لا أصلح شخصيّا للإجابة عن سؤالك هذا لأنّني لا أحب لا أسافر إلا في مهام علميّة أو أدبيّة.
بعد كلّ هذه السنوات، ما الذي تبقّى في جسدكم من المغرب، ثقافياً وفنياً وفكريا؟
بقيت أفكار تلاقحت مع أفكار كتاب من المغرب ونقاشات مع من التقيتهم من النخب الجامعيّة والأدبيّة. أما ما هي هذه الأفكار بالتحديد فيصعب عليّ صراحة ان أضبطها بدقّة.