فهذه التغيّرات لا يُمكن النّظر إليها على أساس أنّها سلبية، رغم ما تتّخذه من ميسمٍ إيجابي، سواء من ناحية عرض الأفلام داخل صالاتٍ، حيث تم تعويضها منذ بداية الجائحة بطقوس المُشاهدة عن بعد، وإنْ كانت هذه الطقوس المنزلية مجرّد خيار مرحلي فرضته ظروف كوفيد 19، لكنّه كان مُؤثّراً في بنية تلقّي العمل السينمائي، ما أحدث جدلاً واسعاً في صفوف صنّاع السينما بالعالم العربي، عن دور هذه الوسائط البصريّة في التأثير على راهن الصناعة السينمائية، بعد أنْ أضحت المنصّات، تُراكم أرباحاً هائلة عن طريق عرض الأفلام وإنتاجها، بحيث تسبّبت في إحداث شرخٍ كبير في مفهوم المُشاهدة.
والحقيقة أنّ هذا الارتجاج الفنّي الذي شهدته طقوس المُشاهدة، لا يُمكن اعتباره سلبياً، وإنّما يُضمر في طيّاته مُختلف التحوّلات التقنية والفكريّة والجماليّة، التي طالت السينما العالمية في السنوات الأخيرة. من ثمّ، ينبغي استثمار هذا التحوّل البصريّ، سواء من ناحية طرق وتقنيات العرض أو سوسيولوجيا المُشاهدة أو حتّى من جانب التفكير في طبيعة العلاقة القائمة بين السينما والجسد والصالة والمُشاهدة عن بعد.
هذه الأسئلة الفكريّة لا تعيش على هامش العمل السينمائي، وإنمّا في صلب جسده، إذْ من خلاله نفهم التحوّل الذي تعيش فيه الصورة وكيف يُمكن أنْ يُؤثّر ذلك علينا، خاصّة وأنّها تُغيّر الكثير من أذواقنا وأفكارنا وعاداتنا ومُعتقداتنا، لأنّ بروز كلّ هذه المنصّات السينمائية، يستدعي أسئلة فكريّة تحفر مجراها عميقاً في جوهر هذه العملية الوسائطية، وما يُمكن أنْ تفتحه بالنسبة للسينما ومُتخيّلها من آفاقٍ بصريّة. إنّها لا تُجمّد الفكر، بل تستدعيه للمُشاركة، وتجعله نمطاً فكرياً دينامياً قادراً على تفكيك هذا التحوّل، بدل الركون إلى مفاهيم قديمة وإشكالاتٍ راكدة، لم تعُد تقوى على التأثير أو حتّى فرض نفسها داخل سياقاتٍ فنّية مُعيّنة.
وبالتالي، فإنّ هذا الصمت الرهيب، الذي رافق صعود المنصّات السينمائية منذ بداية كوفيد 19، لا يُضمر في ذاته سوى هشاشة فكريّة أضحت تطبع النقد السينمائي، بما تجعله هامشياً وغريباً عن الفيلم السينمائي. فلا غرابة أنْ تُطالعنا مؤلّفات النقد السينمائي، باعتبارها فولكلوراً يستعرض عشرات تجارب سينمائيةٍ قديمة، لم يعُد لها أثر على سطح المشهد السينمائي المغربيّ، بل وأيضاً على مُستوى تداول واجترار بعض الإشكالات والمفاهيم منذ الثمانينيات إلى اليوم. إنّ النقد السينمائي مُطالب بالتفكير في هذه المنصّات، وهذا أمرٌ لن يتأتى بكتابةٍ عاشقة أو انطباعية تسعيان وراء شعريّة الصورة وجماليّات النصّ، بقدر ما ينبغي الانفتاح على السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا من أجل استيعاب هذا التحوّل ودراسة مُختلف أنماط التفكير الذي تنحته المُشاهدة عن بعد، وما إذا كانت تستحقّ هذه التجربة الجماليّة أنْ تُعمّم على كلّ التجارب والسياقات والأزمنة.
من ثمّ، فإنّ المُبادرة الفنّية المُؤسّسة التي قام بها المخرج المغربيّ نبيل عيوش قبل أسابيع، من خلال إطلاقه لمنصّة سينمائية (أفلامين) مدفوعة من أجل مُشاهدة الأفلام المغربيّة، أمرٌ يستحق التفكير في جوهر هذا التحوّل الفنّي، الذي قد يدفع مخرجاً مغربياً صوب "الاستثمار" التجاري، لا كنوعٍ من المتاجرة، وإنّما كفعلٍ فكريّ جوهريّ وقويّ يستحقّ كل التشجيع والتثمين لكلّ ما قام به نبيل عيوش في هذا الصدد. فقد كان من المُمكن لحظة ذيوع الخبر على وسائل التواصل الاجتماعي والمنابر الإعلامية، فتح نقاشٍ قويّ حول الغرض من فتح منصّة للسينما المغربيّة، خاصّة بالنسبة لمُخرجٍ ناجحٍ قادرٍ دوماً على خلق جديدٍ سينمائيّ مغربيّ يُعوّل عليه. هل يُمكن اعتبار ذلك تحوّلاً عميقاً في سوسيولوجيا عمل المخرج وانفتاحه على بعض قضايا ومَشاغل الصناعة السينمائية وما يرتبط بها من إنتاج وصالاتٍ ومهرجاناتٍ ومنصّات؟ أم أنّه يدخل في صلب تفكيره وهواجسه من أجل الرقي بالسينما المغربيّة ومُتخيّلها وإعطاء قيمةٍ كبيرةٍ لأفلامٍ قديمةٍ من خلال عرضها، وجعلها تعيش حياة جديدة في فكر ومُخيّلة الجديدة؟
غير أنّ الصمت الذي رافق إطلاق منصّة "أفلامين" من الناحية الفكريّة، يدعونا في هذه الفُسحة الميتا ـ نقديّة إلى إعادة التفكير في جوهر هذا الفعل الفنّي، رغم مقالة رأيّ كهذه، غير كافيةٍ على اثارة الاهتمام بالمنصّة/ القضيّة ودعوة الكُتاب والنقّاد والمخرجين وكافّة العاملين بالصناعة السينمائية إلى الحديث عن العلاقة الجوهرية القويّة، التي تُنتسج بين الفكر والسينما المغربيّة وتحوّلاتها، مُتّخذين من "المنصّات الإلكترونية" كنموذجٍ للتفكير والمُعاينة في قُدرة ونجاعة النقد السينمائي من عدمه، في فهم طبيعة هذه التحوّلات التقنية والجماليّة وبأنّ النقد السينمائي مُطالبٌ بالتفكير والمُتابعة والنقد وطرح الأسئلة.
إنّ النقد السينمائي غير قادرٍ اليوم، حتّى على التعريف بذاته وإيجاد مُعادلة حقيقيةٍ لما يعتمل في الساحة السينمائية المغربيّة ومهرجاناتها، فبالأحرى أنْ يغدو عملية فكريّة قادرة على قراءة جملة من الظواهر التي تستبدّ بالساحة السينمائية كما هو الحال بالنسبة للمنصّات الإلكترونية. لا سيما وأنّ هذه الأخيرة، قد استطاعت إبان الجائحة وبعدها، فرض نفسها وتحطيم أكبر الصالات السينمائية العربيّة من الناحية التجارية.
على هذا الأساس، برز الوعي بأهميّة المنصّات في استقطاب عددٍ أكبر من المُشاهدين، إذْ عمل جملة من المخرجين العرب على عرض أفلامهم داخل منصّات، دون أنْ يعمدوا إلى صالاتٍ ومهرجاناتٍ. وكانت النتيجة جيّدة بالنسبة للكثير من الشباب، خاصّة في ظلّ الجائحة وتنامي سُلطة الصالات الكبرى وما تفرضه من تقاليد وقوانين في طرق العرض وكيفيات التعامل مع المخرج الجديد.
ورغم التحوّلات الكبيرة، التي تشهدها الصورة السينمائية في العالم ككلّ، يبدو الفكر العربي المعاصر، غير قادرٍ على تتبّع هذه المسارات المُتوهّجة التي تمرّ منها السينما العربيّة، في وقتٍ يتراجع فيه النقد السينمائي، إذْ لا غرابة أنْ يتحوّل النقّاد إلى الإخراج ورئاسة مهرجاناتٍ سينمائية، مقابل عشرات الموضوعات السينمائية، التي لم يتمّ تشريحها وفكّ ميكانيزماتها، مع العلم أنّها استنفذت مادّتها داخل الفكر الغربي المعاصر.
لذلك لا يُمكن فهم العمل الكبير الذي قام به نبيل عيوش، دون الرجوع إلى فيلموغرافيته ودوره الجوهري والبارز داخل السينما المغربيّة، حيث استطاع إخراجها من الركود والاجترار، جاعلاً من أفلامه السينمائية، تُشكّل نموذجاً قويّاً، لا يستحق المُشاهدة والنّسيان، وإنّما التفكير فيما تنحته صُوَره السينمائية من أسئلةٍ مُؤرقة مُرتبطة بالواقع والصورة والجسد والتاريخ، وأيضاً بجملة مفاهيمٍ فكريّة ذات علاقة باجتماعٍ مغربيّ مُتصدّع.



