في هذه الزاوية الأسبوعية الجديدة، يلتقي Le360، بجملة من كبار الكتاب والشعراء والفنّانين والمخرجين من العالم العربيّ، ممن أُتيحت لهم الفرصة لزيارة للقراءة عن المغرب أو الإقامة فيه أو حتّى المرور عبره إلى أمكنةٍ أخرى، من أجل تقديم صورة جماليّة بانورامية خارجية عن البلد وعُمق عاداته وروعة تقاليده وحداثة ثقافته وجماليّات فنونه وما مارسه منذ سبعينيات القرن الـ 20 من سحرٍ على تفكيرهم وأجسادهم ومُتخيّلهم وجعلهم يحلمون ويتطلّعون أكثر إلى الالتحام بالواقع المغربيّ وتاريخه من أجل التفكير والكتابة والإبداع والابتكار.
إنّ الزاوية ليست مجرّد سفرٍ في الأمكنة والفضاءات والجغرافيا عموماً، وإنّما سفرٌ عميقٌ في سراديب الجسد وأحراش الذاكرة. سفرٌ ضاربٌ في عمق الثقافة والفنّ ودهشة السؤال. هنا يتحرّر العقل من صرامته الوجودية القهرية ويُطلق الجسد العنان أكثر لمُتخيّله ومشاعره وأحاسيسه في التعرّف على ثقافة الآخر وفنونه، حتّى يتمرّدان على صبغة العقل المنطقية ويُقدّمان معاً صورة ثقافيّة نوسطالجية عن أواصر الصداقة والحب التي انتسجت منذ منتصف القرن الـ 20 بين المغرب والمشرق.
الحلقة الثالثة من هذه الزاوية الأسبوعية، مع الرسّام والشاعر العراقي صفاء سالم إسكندر، وهو من الوجوه الفنّية العراقية الجديدة. برز اسمه انطلاقاً من رسوماته المُلوّنة، وهي عبارة عن بورتريهات أدبيّة خطّها لكبار الأدباء العرب. وتتميّز رسومات صفاء إسكندر بقوّة تخييلية ناعمة وبلاغة بصريّة حادّة، على مُستوى استخدام اللون واللعب على عنصري الفراغ والامتلاء، باعتبارهما مُقوّماتٌ جماليّة، تكاد لا تختفي في مُجمل رسوماته.
بداية، ما الأسباب الوجدانية والمعرفية، التي ساهمت في سيرة وتشكيل وعيكم وسفركم صوب المغرب؟
هي أمنية، أتمنى تحقيقها ذات يوم، أعرف أن هنالك الكثير من الصعوبات تخص سفر العراقي إلى بلاد المغرب العربي، لكن رغم ذلك أملك أمل الراغب في زيارة هذا البلد، الذي شجعني على رؤيته أسماء أدبية كبيرة تبدأ بكاتب مغربي مهم مثل محمد شكري ولا تنتهي بصمويل بيكت أو جينيه. لذلك عندما أرى صور من ذهبوا صوبها، أتأمل حضور جينيه هناك، وقد أحسده إذ أنه أختار موقعًا لقبره لا يخطر ببال أحد من مقربيه، أنه يرسم حضوره حتى وهو ميت حيث قضى شطرًا كبيرًا من حياته هناك، هذا الولد الشقي أو القديس بتعبير "سارتر" قربنا منه "شكري" عندما جعلنا نراه في طنجة في مقاهيها.
آخذًا بالتحدث إليه حتى جمع تلك الأحاديث في عنوان يغري بالمكان "جان جينيه في طنجة" قد يكون هذا النوع من خلق الرغبة العظيمة في زيارة تلك البلاد، عدا عن ذلك هو إعجابي الكبير بصاحب "الخبز الحافي".
وفيما بعد سأتعرف على الكثير من الأسماء المهمة، كعبد الكبير الخطيبي ومحمد بنيس واللعبي اللذان خطا أثرًا لهما في عالم الحداثة الشعرية، ولا أنسى تمامًا قبل أن أخوض في أمر آخر، أن أذكر بكتاب بول شاوول "علامات من الثقافة المغربية الحديثة" فقد لفت النظر في المشرق العربي إلى الأسماء المغربية في عالم الأدب والثقافة. المهم، أن هذه الأسماء لها قراءها، وهذا يعني أن هذه البلاد ليست على هامش الثقافة في المشرق العربي، بمعنى أنها واحدة من المرتكزات الأساسية للثقافة العربية، أدبًا وفنًا. وبشكل عام تربطني علاقات كبيرة بالوسط الثقافي المغربي.
هل يُمكن أنْ نستلهم هنا عبارة محمود درويش المُدهشة: الطريق إلى البيت أجمل من الوصول إليه. كيف كان طريقكم إلى المغرب؟
أظن الحلم جزء من الطريق، إذا فسرنا ذلك المجاز على أنه جزء متمم للحقيقة، أنا مثلاً لا أعرف الطريق الحقيقي إلى المغرب، لكن هل سأشعر بالغربة اتجاه الأماكن هناك، هل سأمر بذلك الشعور؟ ربما ستقلل.
إنّ معرفتي بما قرأته عن تلك البلاد قليلاً من حدة ذلك الشعور، وقد رأيت شكل العمارة، أظن ذلك شيء من الاحتواء، ما المانع إذا تعرفت إلى صورة الأشياء من بعيد، فكل الأحلام بعيدة وعلى أمل أن تتحقق.
ما الرؤى والأحلام والاستيهامات، التي اجتاحت مُخيّلتكم ورافقت رحلتكم صوب المغرب؟
ليس أكثر من الدرب الذي رسمه شكري في رواياته، ولقاءاته مع جينيه وبولز، أظنه لا يشبه شوارع وطرقات اليوم، أكتب ذلك من منطلق الشعور بالإلهام الذي سعى له كبار كتاب العالم، وإلا ما السر الذي يجعلهم يذهبون إلى "طنجة" أشعر أن لهذه المدينة روح كبيرة، روح الآلهات، أتساءل ما أول مشهد لي هناك، لي الكثير من الأصدقاء المغاربة، كيف سأجلس معهم؟ هل سيحبون طريقتي التي أكرهها في قراءة الشعر؟
سأظل أنظر إلى المغرب كحلم من أحلامي. وأتساءل، لو كتبت هناك، كيف ستكون طقوسي؟ وهل الذين مروا على هذه الأرض كانت لهم طقوس في الكتابة؟!
شكّل المغرب حلقة هامّة ضمن مسار تحديث الثقافة العربيّة المعاصرة، لما ظلّ يلعبه من دورٍ فعّال في تقوية أواصر السؤال والصداقة والفكر مع المشرق العربي. من موقعكم البحثي/ الأدبي/ الفنّي، كيف ترون وتُقيّمون راهن الثقافة والفنون في مغرب اليوم؟
بالتأكيد، لم تغب الثقافة المغاربية، عن المشرق العربي، بكل الفنون، نثرًا وشعرًا، والأقوى في عالم الترجمة الفلسفية، فهم الأكثر موثوقية في هذا الميدان، ولا أظن أن هنالك كثر سيختلفون معي في هذا الموضوع.
هل شعرتم يوماً بأنّ الثقافة المغربيّة، تُعدّ امتداداً عميقاً لباقي الثقافات الأخرى المُنتَجة بالعالم العربي، بحكم ذلك التمازج المُتوهّج الذي رافقها منذ سبعينيات القرن الـ 20؟
لكل بلد ما يميزه عن الآخر، وهذا بالتالي ما يخلق اختلاف الثقافات، بالتأكيد لا بد أن يكون هنالك من الكتاب والشعراء والفنانين المغاربة من تأثر بالسياب وسعدي بشكل غير عابر، وهذا بحد ذاته تمازج مع ثقافة مشرقية بحته، ولا بد لبيروت أن تكون حاضرة هي والقاهرة، أقول ذلك، كوني أطلعت على بعض سير الأدباء المغاربة، الذي يعلنون بشكل صريح تأثرهم بثقافة هذه المدن وفيهم من زار هذه المدن فعلاً.
ما مدى تأثير الإنتاج المغربيّ على خصوصيات ثقافتكم، فكراً وأدباً وفناً؟ وهل تعتقدون أنّ ملامح هذا التأثير، تبدو بارزة وبشكلٍ قويّ داخل ثقافتكم وفنونكم في الحقبة المعاصرة؟
كل ثقافة تصل عن طريق الكتاب. اليوم، وبشكل مبهر عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، صار التواصل أسرع وأسهل، وهذا ما يجعلني مطلع بشكل ما على الوسط الأدبي المغاربي، ذلك لا يعني الاستغناء عن الكتاب بشكل أو بآخر، وهذا بالتأكيد واحد من الأشياء التي تعمل بصورة ما على تذويب الثقافات مع بعض.
لكنْ، حين تسمعون المغرب، ما أوّل شيء يتبادر إلى أذهانكم؟
ربما لو كررت أسم "شكري" وعنوان روايته البارزة "الخبر الحافي" قد أكون مغاليًا، أو سيؤخذ عليّ مأخذ أني متأثر جدًا بها، عند من يرون أنها الأضعف بين كتبه.
هل تعتقدون أنّ الصُوَر والرؤى والأحلام والتمثّلات، التي نُكوّنها عن بلد ما، تكون صادقة لحظة الاصطدام بالواقع الحقيقي وعاداته وتقاليده وثقافته وفنونه؟
القرب أو التقرب، سيفترض وعيًا آخر، أقرب إلى المثالي في فهم الصورة المتخيلة عن المكان سالبًا وإيجابًا. مثلاً أنا زرت دولة كنت أظن أنها أكثر تشددًا دينيًا.
لكن الأمر أختلف عندما تعرفت إلى عوالم اناسها عن قرب، وكيف يفكرون؟ وبماذا؟ فمثلاً لو تحدثت عن العراق هنا، يرى من زار العاصمة بغداد من الأجانب والعرب جانبًا لم يعتقدوا بوجوده أبدًا، جانب الكرم على الرغم من أنه معروف عن أهل العراق بأنهم كرماء جدًا مع الضيوف، لكن الصورة التي نقلت عن عراق ما بعد 2003 جعلت الأغلب يخاف من العراقي، من هذا الإنسان البسيط الذي لا حول ولا قوة بسبب الحكومات الفاسدة التي حكمت وخربت وغربت العديد من الشباب.
بعد كلّ هذه السنوات، ما الذي تبقّى في جسدكم من المغرب، ثقافياً وفنياً وفكريا؟
يصف سعدي يوسف إن لم أكن مخطأً، يصف "محمد بنيس" بالشاعر دومًا، ذلك ما أتذكره عن كتاب "مقالات غير عابرة" بنيس واحد من الأسماء الشعرية التي تابعتها وأحاول قراءة متنه بشكل كامل، مع اللعبي، والأهم هو "عبد الكبير الخطيبي" طبعًا لا أنسى "ذاكرته الموشومة" ذلك على الرغم من عدم ذكري لها في الأحاديث السابقة.
وليس من السهل أن نعبر ما يمثله لنا أستاذنا "عبد الفتاح كيليطو" من أرث ثقافي كبير لا غنى عنه في قراءة التراث، أنه يشبه المعلم الذي يبسط المادة الصعبة، ل "كيليطو" فضل كبير عليّ، لقد حبب إلي قراءة "ألف ليلة وليلة" هذا الخيال الذي لا ينقطع على حد تعبير "الغانمي" وصرت مأخوذًا بها، ولم أكتف بطبعة واحدة على رفوف مكتبي.