حيث بدأت بوادر الاضمحلال والوهن تُصيب هذه الثقافة في ديناميتها وتمركزها كخطابٍ واعٍ في جسد الاجتماع العربي. لم تُعد الثقافة في المغرب تُثير جدلاً لأنّ "العقلاء" أدركوا مقولة: "لا ترمي رصيدك في الوحل" فكانت الثقافة الغربيّة موطناً جديداً لهؤلاء الكُتّاب والمبدعين، بعد أنْ فطنوا إلى الحصار الرهيب الذي تفرضه السُلطة على كتاباتهم وأجسادهم وأحلامهم، خاصّة في وقتٍ أضحت فيه التفاهة مُكوّناً من نسيج الثقافة المغربيّة الآن. غير أنّ البعض لم يستطع مُقاومة هذا الابتذال ففضّل الصمت والتوقّف نهائياً عن الكتابة في المغرب.
والحقيقة أنّ هذا الجيل(السبعينيات) الذي كان وما يزال حاملاً لمشعل الثقافة المغربيّة بدا مُغيّباً في السنوات الأخيرة، رغم صدور بعض مؤلّفاته في الخارج، ولأنّ الكثير منها لم يصل إلى المغرب، فقد بدت هذه الثقافة وكأنّها حديثُ كتب عن كتب. بحيث أصبحت مُجمل الكتب عبارة عن مقالات وقصاصات منشورة هنا وهناك، يتم إعادة تدويرها في كتاب وتقديمها على أساس أنّه مشروع فكري.
والغريب أنّ دور النشر التي تنشر هذه الأعمال أضحت تلعب دور الناقد والإعلامي في التعريف ببضاعتها الثقافيّة أمام تواطؤ المواقع والصفحات، لا لغياب الناقد أو الصحافي في المغرب، بل لغطرسة هذه المؤسّسات وجشعها في تقديم كُتّاب وأدباء وباحثين بطريقة مُرتبكةٍ وفرضهم وتكريسهم في كونهم أدباء كبار. ولا شك أنّ حجم الصور المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي تُؤكّد هذه الضحالة التي تستثمر فيها الثقافة المغربيّة وتُحوّلها إلى عنصرٍ مُكوّن من ثقافتها وآدابها، حيث يتم تسليع المؤلّفات بالمفهوم الذي نحته أدورنو ويُصبح مثقال وتأثير هذه الثقافة، لا من جانب التأثير الذي تتركه هذه المؤلّفات في ذهنية القارئ المغربي، بل انطلاقاً من حجم مبيعات الكُتب. ولا غرابة أنْ يجد المرء على واجهات عدد كبير من المكتبات بالدارالبيضاء والرباط وطنجة لائحات باسم الكتب الأكثر مبيعاً في المكتبة.
رغم أنّ مسألة توزيع هذه الكُتب، تظلّ حكراً على عائلة الناشر وقد لا تصل حتّى إلى باقي المكتبات الأخرى الموجودة بنفس المدينة. ونظراً إلى هذا التضليل المُتعمّد من لدن الناشر، يجد القارئ نفسه يلهث وراء إعلامٍ ثقافي بصريّ هشّ يُروّج لعشرات المؤلّفات المُجهضة منهجياً ومعرفياً. لكنْ علاوة على ذلك، يندهش المرء من إعلان دور نشر وكُتّابها خلال في الآونة الأخيرة، من نفاذ روايات ودواوين وكُتب فكريّة وحلول الطبعة الثانية قريباً، علماً أنّ دور نشر لا تنشر أكثر من 100 نسخة ويتم تزوير العقد بدون علم الكاتب على أساس أنّها طبعت 1000 نسخة من كتابه. هذه الأمور أصبحت عاديّة في المغرب الثقافي فسياسة التسليع انتشرت وسط الثقافة وغدت قوّة الكاتب تستند على عدد مُعجبين بالسوشيال ميديا وليس بما ينحته من أفكارٍ وما يطرقه من قضايا مركزيّة تتّصل بالاجتماع العربي ثقافياً وسياسياً.
ثمّة واقعٌ مُزدوج ورهيب، بين الصورة التي نقرأها داخل الإعلام الأجنبي عن الثقافة المغربيّة، وبين ما يوجد من حقيقة بالواقع العيني المُباشر داخل ثنايا هذه الثقافة. ولا غرابة أنْ يتحوّل المَشهد الثقافي إلى ساحة حربٍ شرسة وإلى مليشيات ثقافيّة ترعاها جمعيات تُتاجر في أحلام مُثقّفين وسيرهم وتجاربهم الإبداعية. لقد انصرم ذلك الزمن الذي كانت فيه الثقافة المغربيّة مُؤثّرة وتحتل الصدارة بجرائدها ومجلاّتها ومُؤلّفاتها خلال السبعينيات والثمانينيات، ذلك أنّ السنة الفارطة أكّدت بأنّ مشروع الثقافة المغربيّة حلم لن يتحقّق يوماً، إذْ يصعب تحقيقه في غياب نوعٍ من التعاقد الاجتماعي بين المُثقّفين والمُجتمع والجهات الوصيّة على الشأن الثقافي بالمغرب. كيف يُمكن صناعة ثقافة مغربية في وقت تتحوّل فيه هذه الثقافة إلى عصابات ومليشيات ومراكز قرار ومختبرات لميلاد سُلطة جديدة تُضاهي في صناعتها السلطة السياسيّة؟
حين صدر كتاب "الايديولوجيا العربيّة المعاصرة" للمُؤرّخ المغربي عبد الله العروي، كانت الثقافة العربيّة المعاصرة، مازالت تحتكم إلى اليوتوبيا في مقاربة الواقع العربي وإشكالاته وقضاياه. فكان صدور الكتاب بمثابة القطع مع هذه الرؤية الحَالمة في النّظر إلى الاجتماع العربي، إذْ كانت المناهج الحديثة التي استخدمها العروي كفيلة بإحداث الفرق داخل مُؤلّفات الفكر العربي وفق تصوّرٍ جديدٍ ومنظورٍ جدلي قويّ، يستند على المعرفة الغربيّة وعلى فكر الأنوار. رغم أنّ الكتاب لم يحظَ بما كان يأمله العروي، لا على مُستوى تداوله واختراقه لواقع التأليف داخل الفكر العربي، بل اتّخاذه دليلاً لتوجيه بوصلة الحياة السياسيّة العربيّة إلى الأفضل ضماناً لحريّة الإنسان وحقّه في العيش الكريم داخل مُؤسّسات سياسية واجتماعية وثقافيّة تضم قيم العدل والمساواة والكرامة والتعاقد.
لا شيء من ذلك حدث، في وقتٍ تمّ مُهاجمة المؤرّخ والكتاب بسبب التأثير الغربي على كيفيات نسجه للكتابة واعتماده على نظرة غربية مركزيّة في مقاربة الاجتماع العربي. أمّا المُفكّر عبد الكبير الخطيبي، فقد حوّل المسار الفكري للثقافة المغربيّة وزجّ بها في مناطق يبابٍ من التفكير لحظة صدور مُؤلّفه "الاسم العربي الجريح" لقد بدت الثقافة وكأنّها حائرة بين الانتماء إلى طروحات العروي واكتشافات الخطيبي. هذا الأخير، سيستطيع استقطاب عشرات الأقلام المغربيّة، التي تبنّت فكره ومَشاغله وما اقترحه من مفاهيم وإشكالاتٍ وقضايا تتّصل بالجسد والصورة والثقافة الشعبية والفنّ العربي.
إنّنا نقترح هذه النماذج الفكريّة التي طبعت مسار الفكر المغربي فقط لتأكيد هذا الإشعاع الذي مارسته على الثقافات الأخرى، مقابل الهزل الذي يطبع هذه الثقافة اليوم. إذْ على الرغم من الحصيلة الكمّية، التي تُلحّ بعض الجهات الأكاديميّة عرضها كنوعٍ من الحصاد الثقافي العلمي للقارئ المغربي، فإنّ الشرخ واضحٌ في هذه المؤلّفات وطرق توقيعها والفعاليات الثقافيّة والأدبيّة التي تُرافقها. فقد ساهم فتح الحدود وانخفاض حجم الوباء من غلبة الأنشطة الثقافيّة وكثرتها داخل مُدنٍ مركزيّة وغيابها بشكلٍ تام داخل بعض الهوامش. ما يُوكّد هذه السطوة التي أضحت تُمارسها الجامعة في اختيار المغرب النافع (مفهوم وضعه الاستعمار الفرنسي) عن الآخر الذي لا يصلح. وكأنّ سكّان الدارالبيضاء والرباط فقط من يعرفون القراءة والكتابة وأنّ المُدن الأخرى مجرّد إكسيسوارات، مع أنّ حجم وقوّة بعض المُؤلّفات الصادرة هناك تُؤكّد سنوياً الطريق التي يصنع بها الهامش المغربي مركز الثقافة المغربيّة.
مرحبا بكم في فضاء التعليق
نريد مساحة للنقاش والتبادل والحوار. من أجل تحسين جودة التبادلات بموجب مقالاتنا، بالإضافة إلى تجربة مساهمتك، ندعوك لمراجعة قواعد الاستخدام الخاصة بنا.
اقرأ ميثاقنا