الطاهر بن جلّون: فنّانٌ عاشق بأنامل من ذهب

أشرف الحساني

أشرف الحساني . DR

في 19/05/2022 على الساعة 16:00

يحتلّ الروائي المغربيّ الطاهر بن جلون مكانة قويّة ومُعتبرة داخل الكتابة الروائية المعاصرة. ذلك أنّ كتاباته اخترقت الآفاق وجعلت منه واحداً من كبار الروائيين العرب في القرن الحالي. ولم تخبو يوماً شرارة الإبداع والنقد والابتكار في مُختلف أشكال كتاباته الغزيرة والمُتنوّعة بين الشعر والرواية والفكر.

مناسبة هذا الحديث، معرضه الفنّي الجديد "لونُ الكلمات" للطاهر بن جلّون، الذي نظّمه غاليري 21 بمدينة الدارالبيضاء في الفترة المُمتدة بين 10 ماي إلى الـ 30 منه.

وهي مُناسبة فنّية كبيرة، حتّى يتعرّف المُشاهد المغربيّ على لوحاته ويُقيم معها صداقة دائمة تتأصّل كشكلٍ من المُمارسة الفكريّة الجديدة داخل الثقافة العربيّة المعاصرة والمُتمثّلة في نزوع الكثير من الكُتاب العرب صوب المُمارسة التشكيليّة، وهو تحوّل ليس سهلاً ولا يُمكن النّظر إليه باعتباره مُمارسة جماليّة تلقائية، وإنّما يفرض على الناقد الفنّي مُعاينة تأمّلية تستدعي الحفر وراء هذا التحوّل الجمالي في طبيعة التعبير الفنّي بين الكتابة والرسم. هذا الأمر، يتكشّف بشكل قويّ في تجارب كل من الطاهر بن جلّون وأدونيس وعبد اللطيف اللعبي.

كلّما صدر مُؤلّف جديد للطاهر بن جلّون، تُرافقه موجة هستيرية من الجدل، بين المثقّفين حول ما يُثيره الكتاب من قضايا وإشكالاتٍ وما يطرحه من أسئلةٍ حارقة تتعلّق بمصير المغرب، ثقافياً وسياسياً واجتماعياً داخل الحياة المعاصرة. فقد مكّنه تكوينه الفلسفي من إعادة إنتاج خطابٍ روائي قويّ في مُنطلقاته الفكريّة ومُخاتلٍ في بنياته الجماليّة وأوردته السرديّة.

هذه الفلسفة، كانت سبباً في رحيل بنجلّون إلى فرنسا، لحظة تعريبها وتعويضها بالفكر العربيّ الإسلامي، بعد أنْ قضى بنجلّون سنوات في تدريس أنساق فلسفية كبرى لـ: "أفلاطون" و"ديكارت" و"نيتشه" و"هيدغر" وغيرهم من الفلاسفة الذين أثّروا في الفكر الإنساني وأضحى لخطاباتهم ومَفاهيمهم بُعداً كونياً، لا يرتبط بأيّ جغرافيةٍ مُحدّدة، كما هو الحال بالنسبة لـ "الفكر الإسلامي" الذي ظلّ رغم إنتاجاته الغزيرة والجادّة، يُحيل في ملامحه الفكريّة إلى مرجعية ودينٍ أكثر من كونه نسقاً وفكراً.

وإذا أخذنا على سبيل المثال، محمّد عابد الجابري، الذي يُعدّ رمزاً لهذا التيار، سنجده يُلخصّ الفلسفة فيما سمّاه بـ "العقل العربي"، مع العلم أنّ المُفكّر حين يكتب، لا ينبغي أنْ يضع أيّ حدودٍ أو حواجز أو سياجات من أجل التفكير في بعض القضايا، لأنّه يكتب وفق أفقٍ كوني وللإنسانية جمعاء. فهذا الـ "التشذير" يُشكّل أحد المآزق التي يتخبّط فيها الفكر الإسلامي إبّان الحقبة الحديثة منها والمعاصرة. لقد فطن بن جلّون مُبكّراً إلى خطر التعريب على الفلسفة في المغرب، سيما وأنّ اختيار المنظومة التعليمية لنظام التعريب، لم يكُن موفّقاً.

لذلك، فإنّ تأثيره الفكري، كما حدس إليه بن جلّون، بدا اليوم واضحاً ويتبلور بطريقةٍ علمية داخل الجامعة. حيث بدأت الأنساق الفلسفية الغربيّة ومَفاهيمها الكبرى كـ: "الجمال" و"الأخلاق" و"السياسة" والتاريخ" و"الدولة" و"الفنّ"، تتراجع وتنسحب إلى الخلف، مُفسحة المجال إلى تأويلات الفكر العربي اللامتناهية، وما يُرافقها من تصدّعات داخل مُختبراتٍ علمية، غدت تُفرّخ أشباه الباحثين في الفلسفة.

اتّخذ الطاهر بن جلون موقفه هذا بكل صدقٍ ووعيّ وقناعة. لذلك فإنّ المُتأمّل لمَساره الأدبي، سيفطن إلى أنّ رحيله تجاه فرنسا، بدا في صُوَره اللاحقة وكأنّه قدرٌ لا مفرّ منه. فمُنذ سنواته الأولى، عمل بنجلّون كاتباً ومُحرّراً في العديد من الجرائد الفرنسيّة الأصيلة وراكم تجربة ثقافيّة كبيرة، قبل أنْ يكتب روايته "ليلة القدر" لتُتوّجه بجائزة الغونكور الفرنسيّة، لا كمجرّد أديب يحصل على الجائزة العريقة، بل كأوّل روائي عربي يفوز بهذه الجائزة الضاربة في قدم الثقافة الفرنسيّة المعاصرة.

لم تكُن شهرة بنجلّون مُرتبطة أصلاً بالجائزة عام 1987، وإنّما بحكم عوامل ترتبط بمفهوم الكتابة لديه وصنعته الأدبيّة القويّة المُبهرة في استشكال موضوعاتٍ صغيرةٍ وتحويلها إلى قضايا مركزيّة تشغل الراهن العالمي. كما كانت لتجربة مجلّة "أنفاس" التي كان يُديرها الشاعر المغربيّ الفرنكفوني عبد اللطيف اللعبي، سبباً كبيراً في ذيوعه وتعرّف المغاربة على كتابات بنجلّون المُختلفة، نظّراً إلى السُلطة التي كانت تُمارسها هذه المجلّة خلال ستينيّات القرن الـ 20، بوصفها مجلّة يسارية طليعية مُؤثّرة في وجدان الثقافة المغربيّة في ذلك الإبّان.

غير أنّ جريدة "لوموند" الفرنسيّة، ستُشكّل محطّة بارزة في تاريخ الكتابة الفكريّة لديه، إذْ رغم الحامل الذي يسم الجريدة باعتبارها وسيلة إعلامية، فإنّ هذه المقالات، ظلّت تشي بذلك البُعد الفكري المُتوهّج في جسد بنجلّون. حيث تتحرّر الكتابة من تقريريتها وأخبارها العابرة لصالح كتابة فكريّة تتأمّل قضايا سياسيّة واجتماعية وثقافيّة تتّصل بالراهن العالمي. ففي هذه المقالات، تظهر ثقافة بنجلّون ووعيه الكبير في فهم الأحداث وجعلها تتأسّس ضمن رؤية فكريّة، تتجاوز كونها مجرّد مقالة رأيّ.

هذا الخطاب النقدي التفكيكي المُركّب الذي يتميّز به الطاهر بنجلّون، يكاد المرء لا يعثر عليه، إلاّ من خلال أقلامٍ عربيّةٍ معدودةٍ على رؤوس أصابع اليد الواحدة. وفق هذا الأفق الفكري، غدا الطاهر بن جلوّن أكثر الكُتّاب والروائيين العرب، قراءة وتأثيراً داخل الأوساط الثقافيّة الفرنسيّة. خاصّة وأنّ كتاباته، لا تُهادن ولا تتوقّف عن نقد الأنا والآخر، إنّها تجربةٌ مُختلفة ومُبهجة في مسار الثقافة المغربيّة، حيث تغدو الكتابة أشبه ببلورٍ مُتعدّد المرايا، كلّ ضلعٍ مرآوي يُضمر في طيّاته واقعاً مُختلفاً وحقيقة مُتعدّة حول مفهوم الهويّة في زمننا المعاصر، وكيف أصبحنا نعيش في كيّان الآخر ويُقيم فينا.

لذلك تُطالعنا لوحات المعرض، بوصفها لحظاتٌ بصريّة مُستقطعة من طبيعة حياته اليوميّة، لأنّ الطاهر بن جلّون، يُصوّر لا ما يراه وتلتقطه العين فقط، بل ما ظلّ منسياً ومُترسّباً في تخوم الذاكرة. فهذه الأخيرة، بمثابة براديغم بصريّ ينهل منه الفنّان، حيث للطفولة شهوتها في اختيار الفضاءات والأجساد والأمكنة والألوان.

وبالتالي، فإنّ المعرض أشبه بسفرٍ بصريّ مُلوّن يتقاطع فيه الواقعي بالتخييلي والذاتي بالنوسطالجي، لكنّهما يتعانقان معاً عن طريق بهجة الألوان، لأنّ فيزيونوميّة مَشاهده مُستقلّة بذاتها ولا تُحيل إلى أيّ علامةٍ بصريّة عن الذات، فهو يكتفي بذاته على سند اللوحة. يكفي الطاهر بن جلّون أنْ يحمل بين أنامله علبة من أنابيب ألوانٍ مائية، حتّى يصنع المفاجأة والفرحة على جسد اللوحة، إنّه يصوغ ذاكرته لا واقع الناس، وكأنّ جسده معنيّ أكثر بتفاصيل الطبيعة ومَباهجها وبهذا التسجيل البصريّ الذي لا يراه الناس، لكنْ تُسجّله العَين ويرصده الجسد وتُحوّله ذاكرته إلى مَشاعر وأحاسيس وصُوَرٍ ومَشاهد وألوان. ألسنا هنا، أمام ما تحدّث عنه هنري ماتيس بقوله "ثمّة دائماً زهورٌ لمن يُريد أنْ يراها"؟

تنتقد كتابات بنجلّون وبشكلٍ قويّ الأطروحات التقسيمية أو الواحدية حول مفهوم الهويّة، فهي في نظره مُتعدّدة ومُركّبة، يستحيل الاطمئنان إليها بمعزلٍ عن فهم التحوّلات، التي ألمّت بالزمن المعاصر.

فالهويّة، لم تعُد تكتسب أيّ صفة وجودها واستقلالها إلاّ من خلال الآخر، إذْ يستحيل الحديث عن هويّة جامدة وراكدة وغير مُتحوّلة وفاعلة في الزمان والمكان. إنّ الهويّة كائنٌ زئبقيّ مُمتدّ في التاريخ وأنماط التفكير والجغرافيات، فهي بطابعها المُتحوّل لا تقبل الركود، لكنّها تتلوّن بألف لونٍ. إنّها ما تبقى من ذاكرة الشعوب، لكنّها لا تستطيع الحفاظ على تاريخهم واستمرار صُوَرهم، بحكم أنّها تدخل في علاقةٍ خفيّة مع مفهوم الزمن الذي يُبدّلها وينزع عنها قُدسيتها داخل مجال التداول الاجتماعي.

هذا النوع من الكتابة في نقد الذات والآخر وتبريرها أعطابهما، يتبلور بشكلٍ خفيّ في كتابات بن جلّون الفكريّة، وهي طريقة ناجعة في تأسيس خطابٍ مُركّب ومُتموّج يصعب القبض عليه وخندقته في توّجه فكري مُعيّن. هذا النّمط المُتباين في التفكير أو الاختلاف، نجده في كتابات جاك دريدا التفكيكية، حيث يتحرّر الخطاب من عموميته ويغدو أكثر دقّة في استشكال الموضوعات وتفكيكها قبل إعادة بناءها من جديد. غير أنّ التفكيك في مقالات بن جلّون، يتّخذ صبغة فكريّة قويّة، لأنّه يُحيل على مفهوم "الأزمة" في نظامه وميكانيزماته، وهو المعنى نفسه الذي كان قد اقترحه المُفكّر الفرنسي رولان بارت، حين اعتبر أنّ العملية النقديّة، تُحيل في باطنها إلى جعل الفكر أو الخطاب القائم يدخل في أزمة.

أمّا التجربة التشكيليّة عند بن جلّون، فهي ليست مجرّد مساحة فنّية لتطويع الواقع وتفجير الذات جمالياً أو حتّى تعويضها بسُلطة الصورة الفنّية، بقدر ما تتشكّل كطقسٍ فكري وكمُمارسةٍ صوفية، بعد أنْ تغدو اللوحة على تلقائية سندها وبساطة ألوانها وتركيبها وهندستها وأشكالها امتداداً عميقاً للحياة اليوميّة، مُفسحاً المجال صوب الذات كي تقول كلمتها بصرياً.

ورغم شهرة بنجلّون في العالم، فإنّه لا يُقدّم نفسه كفنّانٍ تشكيليّ، بل كعاشق للمُمارسة الفنّية، وهنا يكمُن جوهر العملية الفنّية لديه، فهي لا تُعدّ دائماً امتداداً للتجربة الروائية ونظيرتها الفكريّة، بل كمساحةٍ جماليّة مُتخيّلة مُستقطعة من سيرة الذاكرة، يُكسّر فيها بن جلّون هذا الأفق التقريري القائم بين الذات والعالم الذي يتبلور على صعيد الكتابة، مقابل أعمال فنّية لا تُسمّي نفسها ولا تحمل أيّ دلالاتٍ فكريّة. إنّها كهذا بلا مصدرٍ أو سياقٍ أو علامة. إنّها مجرّد أنفاسٍ أو علاماتٍ أو صُوَرٍ، انطبع وهجُها في الذاكرة فراودها الجسد تجريدياً عن طريق فتنة الأشكال وبهجة الألوان.

ورغم غياب الأشخاص والبورتريهات والملامح في أعمال المعرض، إلاّ أنّها تحضر بطريقةٍ ميتافيزيقية غير مرئية، حيث للآخر وجوده إمّا على شكلٍ خطوطٍ أو أنفاسٍ أو ذكرياتٍ أو ألوان. إذْ يتّخذ الآخر يُعداً مجازياً يُحيل في أغلب اللوحات إلى عنصر اللون، بما يجعل صداقة الآخر، تبدأ من لحظة التفكير في اللوحة وتتدرّج في مرحلة خبط الألوان وتمريغها وتفجير مَكنوناتها على جسد السند.

إنّ الآخر في لوحات بنجلّون مجرّد لونٍ، لكنّه حضورٌ مُبهجٌ في حياته، إذْ يتّخذ في كلّ اللوحات صبغة الفرح والمفاجأة. كما تحضر صورة طنجة، باعتبارها ذاكرة مرصّعة بالنجوم والأمكنة والألوان، حيث تمتح اللوحة وجودها من جماليّات الطبيعة ومشاهد البحر، لكنّ الفنّان يُصبغها بنفسٍ تجريديّ وبإحساسٍ لا نهائي يُذكرنا بشعريّة وقصائد الهايكو، كإشارةٍ بصريّة قويّة من الفنّان حول العالم الذي يتملّكنا ونتملّكه.

تحرير من طرف أشرف الحساني
في 19/05/2022 على الساعة 16:00