على مدار سنوات طويلة، شكّل المغرب بعمقه التاريخي وتنوعه الثقافي وزخمه الفني، محطة سياحية للعديد من الكتاب والشعراء والفنّانين والفوتوغرافيين والمخرجين، الذين زاروا المغرب وتمتعوا بخيراته وعاينوا ذاكرته وجماله، من خلال عدد من المدن التاريخية، التي أقاموا فيها من أجل إقامة نوع من الطباق البصريّ بين الواقع والخيال.
إنّ الزاوية ليست مجرّد سفرٍ في الأمكنة والفضاءات والجغرافيا عموماً، وإنّما سفرٌ عميقٌ في سراديب الجسد وأحراش الذاكرة. سفرٌ ضاربٌ في عمق الثقافة والفنّ ودهشة السؤال. هنا يتحرّر العقل من صرامته الوجودية القهرية ويُطلق الجسد العنان أكثر لمُتخيّله ومشاعره وأحاسيسه في التعرّف على ثقافة الآخر وفنونه، حتّى يتمرّدان على صبغة العقل المنطقية ويُقدّمان معاً صورة ثقافيّة نوسطالجية عن أواصر الصداقة والحب التي انتسجت منذ منتصف القرن الـ 20 بين المغرب والمشرق.
الحلقة الأولى من هذه الزاوية الأسبوعية، مع لينا هويان الحسن، وهي كاتبة وروائية من سورية مُقيمة في لبنان، تُعتبر من أبرز الأصوات النسوية الهامّة، التي تكتب الرواية بنفسٍ معرفي مُدهشٍ وعالم. لما تمتلكه من ثقافةٍ تاريخيّة مُذهلة تتعمّد دوماً الاستناد عليها، بوصفها مختبراً للتفكير والتجريب وإعادة بناء أفق روائيّ مُتخيّل بين الماضي والحاضر. صدر لها الكثير من المؤلّفات نذكر منها: "كعب الجنية" و"بنات نعش" و"سلطانات الرمل" و"ليس رصاصة طائشة...تلك التي قتلت بيلا".
1- بداية، ما الأسباب الوجدانية والمعرفية، التي ساهمت في سيرة وتشكيل وعيكم وسفركم صوب المغرب؟
السبب "الست الحرة"، أي امرأة، ملكة، حاكمة، سيدة، المهم أن الست الحرة كانت هي بداية علاقتي الوجدانية بالمغرب. أتذكر أني كنتُ اقرأ شيئاً عن المعارك البحرية للأسطول العثماني وكيف أنّ الأخوين بربروس سيطرا على الحوض الشرقي من البحر الأبيض، بينما هنالك ملكة مغربية اسمها أو لقبها: "الستّ الحرّة"، وأنها بفضل قوتها وحسن إدارتها سيطرت وأدارت العمليات البحرية في غرب المتوسط!؟ تتبعت سيرتها بشغف، ولكن لم أعثر فيما توفر بين يدي من كتب على معلومات كافية. عندما زرت تطوان في 2019 سألت عن الست الحرة لأنها كانت زوجة حاكم تطوان وعلمت أنها مدفونة في الشفشاون لكن لم يسمح لي الوقت بالوصول إلى هناك.
وهنالك السينما: مارلين ديتريش وهمفري بوغارت وانغريد برغمان، نجوم تدخلوا في رسم صورة المغرب في مخيلتي.
2- هل يُمكن أنْ نستلهم هنا عبارة محمود درويش المُدهشة: الطريق إلى البيت أجمل من الوصول إليه. كيف كان طريقكم إلى المغرب؟
تأخر لقائي بالمغرب. حتى دعيتُ إلى مهرجان أصيلة في صيف 2019 كنت قد دعيت لعامين سابقين على التوالي، من ذلك التاريخ، لكن صعوبة الحصول على التأشيرة، حالت دون تحقيق الحلم. والآن أكتبُ لك الإجابات وأتفقد بريدي الالكتروني انتظارًا لوصول التأشيرة تلبية لدعوة كريمة من معرض الرباط الدولي للكتاب. وفي كل مرة أزور المغرب أقضي المدة الكاملة المتاحة لي في التأشيرة وغالبًا لا تتجاوز العشرين يوما!! إذن طريقي إلى المغرب لم تكن ميسرة تماما كما كل قصص العشق. هنا لا تنطبق مقولة درويش على رحلتي صوب المغرب. كما أنني لا أرى أن المغرب وجهة سفر وحسب، إنها هو مقصد، وحلم ومن لم يزر المغرب فاته الكثير.
3- ما الرؤى والأحلام والاستيهامات، التي اجتاحت مُخيّلتكم ورافقت رحلتكم صوب المغرب؟
ربتني الحكايات. عشتُ طفولتي، في وسط قبلي وصحراوي، وفي كل الخرافات التي كانت تروى على مسامعي هنالك ملك الجن شمهورش. وهذا دائمًا يسكن جبال أطلس في المغرب، وهناك محكمة الجن وفي كل القصص التي أسمعها ستأتي لحظة درامية ويلجأ فيها بطل القصة لمحكمة الجن في جبال أطلس. بصراحة لم أفكر بشكل واقعي ومنطقي فيما يتعلق بالمغرب. وكم كانت دهشتي كبيرة عندما علمتُ أنّ هنالك مقاما باسم شمهورش وأنه قريب من مراكش! وبالفعل زرت مراكش لكن ولعي بأفاعيها الراقصة شغلني عن التفكير بشكل جدي بزيارة شمهورش،
4- شكّل المغرب حلقة هامّة ضمن مسار تحديث الثقافة العربيّة المعاصرة، لما ظلّ يلعبه من دورٍ فعّال في تقوية أواصر السؤال والصداقة والفكر مع المشرق العربي. من موقعكم البحثي/ الأدبي/ الفنّي، كيف ترون وتُقيّمون راهن الثقافة والفنون في مغرب اليوم؟
أهم الرواد المدافعين عن العقل والحداثة هم من المغرب. في 1998 عقد قسم الفلسفة في جامعة دمشق مؤتمرا لتبادل الفكر الفلسفي وكان فكر محمد عابد الجابري هو بطل كل الجلسات التي لا تُنسى والتي سمعنا تداولها من أفواه أهم فلاسفتنا وأساتذتنا صادق جلال العظم وطيب تيزيني. وحدث أن التقيتُ مصادفة بالمفكر الكبير محمد سبيلا الذي رحل مؤخرا عن دنيانا تاركا إرثا فكريا مؤثرا على الحداثة الفكرية التي تتبنى سيادة العلم والمنطق العلمي في التفكير. وروائيًّا تميزت المغرب بقربها أدبيًا من الساحة العربية وغدونا ننتظر ما يكتبه الأديب المغربي.
5- هل شعرتم يوماً بأنّ الثقافة المغربيّة، تُعدّ امتدادًا عميقًا لباقي الثقافات الأخرى المُنتَجة بالعالم العربي، بحكم ذلك التمازج المُتوهّج الذي رافقها منذ سبعينيات القرن الـ 20؟
المغرب بلد التنوع الثقافي، فيتبادر إلى ذهني: الأندلسي الموريسكي، الأمازيغي، الإفريقي. تعدد أعراق وتداخلات لغوية وثقافية وزخم حضاري يشمل معمار المغرب ومعالمه بما في ذلك الأسواق والأسوار والمدن العتيقة والمساجد والقصور، تتشابه مع تونس والجزائر، لكن الزخم أكثر وضوحًا وحضورًا في المغرب.
6- ما مدى تأثير الإنتاج المغربيّ على خصوصيات ثقافتكم، فكراً وأدباً وفناً؟ وهل تعتقدون أنّ ملامح هذا التأثير، تبدو بارزة وبشكلٍ قويّ داخل ثقافتكم وفنونكم في الحقبة المعاصرة؟
كدارسة للفلسفة أعرف كيف تمكن "الجابري" من تجاوز القراءات السابقة للتراث وكيف استطاع تحقيق القطيعة الابستمولوجية التي اعتمدها سلاحًا نقديًا. وكيف تميز الفكر المغربي الحديث بالانفتاح على قراءات معاصرة وتعشيق الفكر العربي بالمفاهيم الرائجة في العالم الحديث، وهذا تأثيره واضح في التفكير الفلسفي العربي بشكل عام.
7- لكنْ، حين تسمعون المغرب، ما أوّل شيء يتبادر إلى أذهانكم؟
الأندلس. وهذا تصوّر قرّبه لي الواقع. تسنى لي زيارة الكثير من المنازل والبيوت وحتى القصور في المغرب. يميزها التناغم التام مع الماضي العريق للمغرب. في مجالس الضيافة والصالونات والحمامات وحتى الفنادق كلها معشّقة باللمسة الملكية السحرية. أكثر ما شدني في الشخصية المغربية، الحرص على الثياب التقليدية في المناسبات، قطعاً أنا في صفّ الحداثة لكن ليست مع محو الهويات. ابتعادنا عن ملابسنا التقليدية فيه خسارة كبيرة لأجمل ما تركه لنا الماضي.
8- هل تعتقدون أنّ الصُوَر والرؤى والأحلام والتمثّلات، التي نُكوّنها عن بلد ما، تكون صادقة لحظة الاصطدام بالواقع الحقيقي وعاداته وتقاليده وثقافته وفنونه؟
في قصتي مع المغرب كانت دهشتي هي الكلمة المعبرة عمّا رأيته وعشته. أدهشتني نظافة المدن وأناقتها. كالرباط ومراكش وتطوان. كذلك محطات القطارات والخدمات الميسرة في بلد شاسع كالمغرب. الطرقات المنظمة والحدائق والشواطئ، لم أتوقع تلك البنى التحتية المدهشة في بلد مساحته واسعة وتتميز مدنه بكثافة سكانية كبيرة.
9- ما المُدن والفضاءات التي قُمتم بزيارتها أو عشتم داخلها في المغرب لسنواتٍ، لكنّها ساهمت في تغذية ذواتكم وتفكيركم ومُتخيّلكم في سنواتٍ أخرى لاحقة؟
محطتي الأولى كانت "أصيلة" وجهود معالي محمد بن عيسى البارزة في استقطاب رواد الفن والثقافة إلى أصيلة التي أعتبرها البوابة التي عبرتُها صوب المغرب. أمّا طنجة فهي حكاية لا تنتهي من الفتنة. تهت لأيّام بين أضلاع المدينة، المتحف المشرّع على أبيض المتوسط وحبر الأطلسي. كل حجر في طنجة هو حكاية.
لا شك أنّ الكتّاب الأجانب الذين عاشوا فيها وكتبوا عززوا صيتها، لكن طنجة تتفوق على كتاباتهم جمالا ودهشة. زرتُ الفندق الذي أقام فيه هنري ماتيس وتلك الغرفة التي رسم فيها لوحته الشهيرة نافذة في طنجة. والبار الذي كان يشرب فيه همنغواي البيرة. ومصادفة دخلت مطعم الدرادو مع أصدقائي لأكتشف أنه مطعم محمد شكري المفضل وصوره دلتني عليه. فنادق طنجة متاحف حقيقية.
أمّا الطبيعة المتفجرة بالألوان في منطقة البوغاز واسبارطيل فهي جمال ملهم وفني وسحري والدليل التأثر المعلن في إبداع الغرب. مثال ذلك أيقونة الأزياء الفرنسية إيف سان لوران الذي لم ير الألوان خارج الزليج والجلاليب والقفاطين، وأعترف أنه يدين بالجرأة بعروضه لألوان المغرب وتناغماته الجريئة والمتقدة.
10- بعد كلّ هذه السنوات، ما الذي تبقّى في جسدكم من المغرب، ثقافياً وفنياً وفكريا؟
أصارحك: المغرب ليست وجهة سفر وحسب بالنسبة لي، إنها مقصد، ولولا صعوبة حصولي على الفيزا لكنت من الزوار السنويين ولربما المقيمين، من أحلامي الإقامة في طنجة. كذلك مراكش. مغرمة بأفاعي مراكش الراقصة، مراكش امرأة خطرة، ذكية، متخفية، وكل الذين سحبتهم نحوها يدركون ذلك والدليل إيف سان لوران وأثره السياحي والأيقوني على المدينة الحمراء الفاتنة. أكتب الإجابات وأنا أفكر بزيارة حديقة أوريكا.
لا أفكر بالمغرب كذكرى، إنما هي مخططي القادم ومقصدي الروحي والأدبي والسياحي. هنالك سرّ لم أعثر عليه لكنه يناديني صوب المغرب دائمًا.