وإذا كان تعليق تنظيم التظاهرات الثقافية والفنية الجماهيرية، بما في ذلك الملتقيات السينمائية، أرخى بثقله سلبا على المستويين الاجتماعي والثقافي، فإن التجارب التي راهنت على مقاومة الوباء بالفن، وجنحت لخيار التنظيم الرقمي تؤكد أن هذا الخيار آتى ثماره وكان له وقع جيد، وأن مقولة "رب ضارة نافعة" تصلح في هذا المقام إلى حد كبير.
هذا الوقع الإيجابي للهجرة من الواقعي إلى الرقمي أكده خالد سلي، مدير مهرجان الفيلم المغاربي في وجدة، الذي نظم مؤخرا دورته التاسعة في صيغة افتراضية، حين قال إن ما تحقق في هذه الدورة الرقمية كان "هائلا وفاق انتظاراتنا" مقارنة بالدورات السابقة.
وأوضح سلي، وهو رئيس جمعية (سينيمغرب)، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن لغة الأرقام تشير، بالملموس، إلى أن تنظيم المهرجان في صيغة رقمية أعطى للتظاهرة "إشعاعا قويا، سيما مع الخطة التي اعتمدناها بتعزيز حضورنا على مواقع التواصل الاجتماعي"، مشيرا إلى أن عدد متابعي صفحة المهرجان على (فيسبوك) مثلا، انتقل من 22 ألف متابع إلى أزيد من مائة ألف متابع، وذلك في ظرف شهر واحد.
النقطة الإيجابية الثانية، يضيف سلي، هي "أننا اضطررنا لتأهيل الموقع الإلكتروني للمهرجان ليكون قادرا، على المستوى التقني، على نقل عرض الأفلام وبث الندوات والورشات عبره، وتبعا لذلك فقد أصبحنا نتوفر على موقع جيد".
وبلغة الأرقام دائما، يقول سلي، فإن عدد متابعي فقرات المهرجان سجل ارتفاعا ملحوظا خلال هذه الدورة مقارنة مع الدورات السابقة، سواء بالنسبة لحفل الافتتاح (20 ألف متفرج مقابل 12 ألف سابقا)، وندوة (السينما بعد كوفيد-19) التي تابعها أزيد من 6 آلاف شخص، وحفل الاختتام الذي فاق متابعوه 10 آلاف شخص.
وأشار سلي، في السياق ذاته، إلى أن فقرة (الماستر كلاس)، التي قدمها الفنان ربيع القاطي على (انستغرام)، لاقت بدورها متابعة مهمة، فيما انتقل عدد المستفيدين من ورشة التمثيل والإخراج من 20 مستفيدا أغلبهم من جهة الشرق في الدورات السابقة، إلى أزيد من 120 مستفيدا ينحدرون من مختلف جهات المملكة ومن دول عربية أخرى كالعراق والأردن وفلسطين.
وخلص المتحدث إلى أن الدورة الرقمية لمهرجان الفيلم المغاربي بوجدة "أنعشت آمالنا، وكشفت أننا ربما كنا مخطئين في الماضي حين لم نكن نواكب الدورات الحضورية بنسخة رقمية موازية"، مؤكدا أن هذه النسخة الرقمية "ولدت لدينا قناعة باعتماد الشق الافتراضي في الدورة المقبلة إلى جانب الشق الواقعي لأنه يعطي إشعاعا أكبر، كما أنه لا يكلف سوى 15 في المائة من الكلفة العامة للمهرجان والتي يمكن أن نوفرها باقتصاد مصاريف أخرى".
جانب آخر إيجابي قدمته الدورات الافتراضية للمهرجانات السينمائية خاصة والأنشطة الفنية على العموم، يتمثل، حسب سلي، في تلطيف جو الكآبة والحزن المخيم بسبب وباء (كوفيد-19)، وتكريس دور الفن في مقاومة الأزمات وتبعاتها النفسية أساسا، سيما وأن هناك من الناس من لا يتورع في تبخيس الأنشطة الثقافية وجدواها، ولا يدرك الدور الحاسم الذي يمكن أن تضطلع به الثقافة وفرص العمل والمداخيل التي يمكن أن تدرها إذا وضعت في صلب التنمية.
وإلى جانب مهرجان الفيلم المغاربي بوجدة، اضطرت العديد من المهرجانات السينمائية بالمغرب إلى الالتئام في صيغة افتراضية هذه السنة بسبب تداعيات وباء (كوفيد-19)، من قبيل "مهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف" (23 - 31 أكتوبر الماضي)، و"مهرجان أكادير الدولي للسينما والهجرة" (22 - 26 دجنبر الجاري)، و"المهرجان الدولي لسينما الذاكرة المشتركة" بالناظور (14 - 19 دجنبر الجاري).
على أن هذا الجانب المشرق من التنظيم الافتراضي للمهرجانات السينمائية لا يعني، بأي حال من الأحوال، أنه يمكن أن يحل، بشكل دائم، محل الدورات على أرض الواقع، التي تبقى، في نظر الناقد السينمائي الشاب سليمان الحقيوي، من الأهمية بمكان، سواء في ما يتعلق بضمان استمرارية عمل قاعات السينما المهددة بالإغلاق أصلا، بسبب تنامي عدد منصات العرض الرقمي للأفلام، أو في ما يتعلق بالعوائد المادية لهذا القطاع ووقعه الاقتصادي.
ففي تعليقه على موضوع هجرة المهرجانات السينمائية إلى الفضاء الرقمي، قال الحقيوي، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، "إن هذه ليست المرة الأولى التي واجهت فيها مهرجانات السينما أزمات أدت إلى تأجيل أو إلغاء دوراتها، فقد سبق تعليقها خلال ظروف تتعلق بالحروب تحديدا"، مضيفا أنه في الظرفية الحالية، شلت مهرجانات السينما وكل الأنشطة الثقافية بسبب تبعات وباء (كوفيد-19)، ما دفع مهرجانات كثيرة إلى سلك طريق العرض الافتراضي.
وحسب الحقيوي، فإنه "لا يمكن في هذه الحالة أن نحسم في ما حققته السينما بهذا الانتقال إلا في ضوء فهم خصائص صناعة السينما نفسها"، موضحا أن "الجانب الاقتصادي فيها يظل أساسيا (العرض، العائدات، الأجور، العاملون في السينما، سوق الفيلم ...)".
وبهذا المعنى، يضيف الناقد السينمائي، فإن المهرجانات التي اختارت البث الافتراضي "كانت مدفوعة إلى هذا الخيار قسرا، كي تقلص حجم الخسائر ما أمكن، خصوصا بالنسبة للمهنيين".
وخلص الحقيوي إلى أن المهرجانات السينمائية تشكل "آخر حصون الفيلم وصانعيه، والضامنة لشروط عرضه"، وبالتالي فإن كل فرصة لإقامة هذه المهرجانات، وفق شروط العرض المعروفة واقعيا، لن تعوضها دورة افتراضية، خصوصا وأن ثقافة المشاهدة في القاعة صارت مهددة كل يوم مع ظهور منصات العرض الرقمي.