بالفيديو: مغاربة تحت رحمة الموت الأبيض!

موسم الثلوج يشكل بالنسبة لسكان أعالي الجبال بالمغرب سباتا قسريا

موسم الثلوج يشكل بالنسبة لسكان أعالي الجبال بالمغرب سباتا قسريا . DR

في 02/01/2018 على الساعة 02:32

هنا، في أعالي الجبال المتأخمة للأطلس، ما إن يدنو فصل الشتاء، حتى يضع الأهالي أياديهم على قلوبهم.. لما يعني لهم ذلك من قساوة الطبيعة وشظف العيش بسبب حصار الثلوج. في هذا الربورتاج، ننقل لكم بالصوت والصورة بعضا من المعاناة التي يقاسيها هؤلاء خلال موسم السبات القسري.

 الساعة الثامنة صباحا. انطلقنا نحو أعالي الجبال جنوب مدينة دمنات (100 كلم شرق مدينة مراكش) فاستقبلتنا الجبال الانيقة الملتحفة ببياض الثلوج كأنثى أطلسية شامخة لا تملك أمامها سوى الرضوخ والخشوع أمام عظمة المكان وهدوئه، الذي لا يفسده سوى صوت عجلات السيارات على هذه الطرقات الملتوية، ولا تزيدك رائحة أشجار الصنوبر البري إلا تقديسا للمكان. كنا كلما غصنا في الجبال أكثر كلما اشتد البرد واشتدت وعورة الطريق.

من مدينة دمنات وصولا إلى الجماعة القروية أيت تامليل، قطعنا أزيد من 50 كيلومترا شبه معبدة، على متن سيارة رباعية الدفع، ثم عرجنا نحو مسلك غير معبد في اتجاه دوار تيسويتين، اخترقنا عدة دواوير متفرقة، سمتها الغالبة هي الفقر والهشاشة، لكن ومع ذلك كلما مررنا بإحداها إلا واستوقفنا أهلها بأدب وعرضوا علينا الضيافة، دون أن يعرفوا من نكون ولا الوجهة التي نقصد.

كانت وجهتنا دوار تيسويتين، أبعد نقطة في الإقليم، والذي تلقينا في موقع Le360 نداءات عبر الهاتف من طرف بعض ساكنته المحاصرة بالثلوج، تدعونا إلى لفت انتباه المسؤولين من أجل فك الحصار عنهم...

مرت أزيد من خمس ساعات، سلكنا خلالها طرقا برية ومسالك جبلية خطيرة عبارة عن وديان ومنحدرات ومرتفعات وعرة، وواجهنا خطر انزلاق السيارة عدة مرات بسبب الجليد، وفي كل مرة نعبُر منحدرا بسلام إلا ونتنفس الصعداء وندعو في قرارة أنفسنا أن يكون القادم أيسر.

وصلنا القرية أخيرا بعد مشقة كبيرة. تركنا السيارة في واد يقع أسفل الدوار، ثم صعدنا راجلين صوب بيوت الدوار المشيدة بالحجارة والطين فوق كدية. وهناك وجدنا سكان القرية جميعا في انتظارنا، رجالا ونساء وصغارا، لم تمنعهم برودة الطقس من ترك دفء بيوتهم، لكن حرقة المعاناة التي يقاسونها اضطرتهم إلى الهرع إلينا –كصحفيين- ليبلغونا مآسيهم، علنا ننجح في تبليغها عنهم إلى ما وراء تلك الجبال المثقلة بالبياض.

شاهد ربورتاج: معاناة قرية معزولة اسمها تيسويتين:

السبات القسري

الحاج إبراهيم، الذي استضافنا في بيته، أقسم أن حصار الثلوج دام هذه السنة 45 يوما، ظل خلالها السكان في عزلة تامة عن العالم الخارجي، مضيفا أنه لولا التضامن فيما بينهم لماتوا جوعا، بعدما نفدت المؤونة ومخزون الغذاء، الذي تدّخره الأسر لموسم السبات القسري.

نفسها المعاناة تتكرر في كل الدواوير الموجودة في أعالي الجبال، فمع انخفاض درجات الحرارة، تتجمد الحياة بهذه المناطق، لكن ساكنتها تتحد ضد قساوة الطبيعة وصعوبة التضاريس، في ظل "لا مبالاة" المسؤولين.

في هاته المناطق، ثمة عزلة قاتلة فرضتها صعوبة المسالك، وهي صعوبات لا يقاسي بسببها السكان فقط، وإنما حتى البهائم والماشية، التي تعتبر المورد الوحيد لدخل غالبية الأسر هنا، تعاني بسبب قلة الأعلاف أثناء موسم حصار الثلوج.

معاناة سكان الجبال تتعمق أيضا بسبب قلة حطب التدفئة، الذي ترتفع أسعاره كلما قست وطأة البرد الشديد، إلى درجة تصبح معها حزمة حطب أهم من وجبة طعام، من أجل بث قليل من الدفء في بيوتهم الطينية، التي لا تقيهم من برودة الطقس، حين تنخفض درجة الحرارة إلى ما دون العشرة تحت الصفر!

معاناة تنضاف إلى تفاقم نسبة الأمية داخل هذه الأوساط حيث تبعد المدارس والمؤسسات التعليمية بعدة كيلومترات، مما يجعل أطفال المدارس ينقطعون عن التعليم لأيام، بل في بعض الأحيان لشهور لكثرة التساقطات المطرية والثلجية، مما يجعل منحنى الهدر المدرسي في ارتفاع.

شاهد الربورتاج:

الموت الأبيض

بهذه المناطق البعيدة عن الحضارة، يغيب التطبيب وتنعدم المستشفيات والأدوية، فيضطر الجبليون إلى الاعتماد على سائل تقليدية للتداوي، أو قطع العشرات من الكيلومترات عبر مسالك وعرة حاملين المرضى فوق النعوش على الأكتاف، من أجل الوصول إلى أقرب مركز صحي تفصله عن الدوار ساعات من المشي فوق الثلوج.. معاناة تتكرر كل سنة ومعها تتكرر "الحلول الترقيعية" التي تلجأ إليها الحكومة بين الفينة والأخرى.

ويحكي الأهالي هنا أن "الموت الأبيض" رزاهم في عدد من المواليد خلال فترات الشتاء القارس، وأخذونا لمعاينة مقبرة خاصة بالأطفال ضحايا "حصار الثلوج"، والذين قضوا خلال وضعهم أو أثناء نقل الحوامل على النعوش في اتجاه المستوصف.

واشتكت عدد من النساء، في تصريحات لـLe360، من المشقة التي يجابهنها أثناء الحمل وخصوصا عند الوضع، بسبب بعدهن عن طبيب أو ممرض يتابع حالاتهن، ما يدفعهن إلى الاستسلام لقدرهن، إما النجاة أو الموت.

شاهد الربورتاج:

إجراءات الحكومة

قال رئيس الحكومة سعد الدين العثماني إنه تم اتخاذ عدد من الإجراءات والتدابير الرامية للتخفيف من آثار البرد والصقيع الذي تشهده مختلف مناطق المملكة، تتضمن بالخصوص تشكيل لجن إقليمية لمكافحة آثار البرد القارس وفك العزلة عن المناطق المتضررة.

العثماني أوضح أن هناك برنامجا حكوميا لفتح الطرق والمسالك المغلقة بسبب تهاطل الثلوج، عبر تمكين المصالح المختصة من الوسائل اللوجيستية الضرورية وتعبئة عدد من الآليات الخاصة لإزاحة الثلوج وغيرها من الإجراءات.

وأعلن رئيس الحكومة عن انطلاق عملية لتوزيع المؤن الغذائية في المناطق الأكثر تضررا، حيث تم في هذا الصدد توفير 26 ألف مؤن غذائية مع الأغطية لتوزيعها على الأسر الموجودة في الدواوير المعزولة.

وأشار إلى أنه تم تكليف الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات بتأمين الاتصال في المناطق التي يتعذر فيها الاتصال بالطرق السلكية أو اللاسلكية، حيث تم توفير جميع الإمكانيات المالية لتأمين الاتصال عبر الأقمار الصناعية في حالة العزلة.

وحث العثماني مختلف القطاعات الوزارية، خاصة وزارة الداخلية والفلاحة والصحة والتجهيز والتضامن، على ضرورة التعبئة في هذه المناطق واتخاذ الاحتياطات المناسبة تحسبا لأي طارئ، مع اتخاذ كافة الإجراءات الوقائية للتدخل في الوقت المناسب، مشددا على ضرورة التنسيق بين القطاعات وضمان الالتقائية من أجل التخفيف على المواطنين.

بدورها، أعلنت وزارة الداخلية أن السلطات المحلية اتخذت مجموعة من الإجراءات لفك العزلة عن المناطق التي عرفت تساقطات ثلجية وانخفاضا شديدا في درجات الحرارة، وقدمت كافة أشكال الدعم والمساعدة اللازمة للمواطنين، وذلك تنفيذا لتعليمات الملك الرامية إلى التجند لمواجهة آثار موجة البرد.

وكشفت الداخلية في بلاغ أن المصالح المختصة قامت بالتدخل لإعادة فتح 66 طريقا ومسلكا، ما مكن من إعادة الولوج إلى كل الدواوير التي كانت تعاني من العزلة، وذلك في إطار فك العزلة عن المناطق التي عرفت تساقطات ثلجية.

وأردفت الوزارة في بلاغها أن المصالح والسلطات المعنية "ستبقى مجندة لتقديم كل أشكال الدعم والمساعدة اللازمة للمواطنين مع تعبئة جميع الموارد والوسائل الضرورية لذلك".

شاهد ربورتاج توزيع المساعدات بإقليم خنيفرة:

حلول ترقيعية

هذه الجهود التي تقدمها الحكومة لفائدة سكان الجبال المتضررين من قساوة الطبيعة، ليست سوى "حلولا ترقيعية"، حسب رأي لحسن المنصوري، الفاعل الجمعوي ابن منطقة تيسويتين، الذي يقول في تصريح لـLe360: "عشت طفولتي في هذه المنطقة الجبلية الوعرة التضاريس، واليوم أكاد أجزم بأن المنطقة لم تشهد أي تنمية تذكر، فأهل هذه البلدة، كما باقي المناطق المجاورة لها وكل القرى والمناطق النائية في المغرب، لا يزالون يقاسون الأمرين في فصل الشتاء ويواجهون معاناة شديدة لا تختلف كثيرا عن تلك التي كان أجدادهم يتعايشون معها، فما أن يحل الشتاء حتى تحل معه فصول من المعاناة، بعضها مرتبط بالعوامل الجغرافية والظروف الطبيعية للمنطقة، حيث تعرف المنطقة موجات برد شديدة جدا تمتد طيلة أكثر من ستة شهور، لكن القسط الأكبر من هذه المعاناة يرجع أساسا إلى التهميش والإقصاء الذي تعانيه هذه المناطق منذ زمن طويل".

شاهد ربورتاجا آخر عن منطقة أزيلال:

وأوضح المتحدث أن الأمر نفسه يمكن قوله على المستوى الصحي، فكل ما يقدمه المستوصف الصحي الوحيد بالمنطقة هو فقط توصية بالذهاب في أقرب وقت إلى المستشفى المحلي بدمنات أو الإقليمي في أزيلال، الذي يضطر بدوره لاستقبال عدد هائل من المرضى بشكل يومي تتجاوز طاقته بأضعاف كثيرة. وقد بات التنقل بالنسبة لسكان المنطقة خصوصا المرضى، خلال موسم الشتاء، عنوان لعذابات ومعاناة بعضها أشد من أخرى، باختصار، إن الحياة هنا تكاد تتعطل في هذا الموسم".

وأوضح المنصوري أن هذه المبادرات التي تقدم عليها الدولة من خلال توزيع المساعدات، لا تحقق الأهداف المتوخاة منها، التي هي فك العزلة وتخفيف شدة العيش وصعوبة الحياة عن الساكنة.

ونبه المتحدث في ختام حديثه إلى أن هذه المنطقة ومثيلاتها، "تحتاج إلى التفاتة خاصة من الدولة والسلطات المعنية تنبني على استراتيجية بعيدة المدى لفك العزلة والتهميش عنها، لأن طبيعة معاناة سكان مثل هذه المناطق قاسية للغاية. فالمواطنون البسطاء يجدون أنفسهم في كل عام بين مطرقة المعاناة المعهودة، الفقر وضيق ذات اليد وانعدام الإمكانيات والعزلة والتهميش، وسندان البرد القارس وثلج الشتاء وما يصحب معه من ارتفاع لأسعار المواد الغذائية والحطب وأعلاف الماشية التي تشكل مصدر القوت القليل والوحيد لعدد كبير جدا من الأسر في المنطقة بأسرها".

أمل ممزوج بالألم

في المناطق النائية من المملكة، أو المغرب غير النافع، كما يصطلح عليه، يعيش مواطنون يجابهون قسوة البرد وقهر الثلج بالصلاة، يدعون من خلالها البارئ رأفته، وينتظرون القليل من رحمة الدولة التي يختزلونها في مساعدات قد تأتي وربما لا تصل.

رحلنا ونحن ننظر لعيون الساكنة المتشبّثة بنا وكأننا بصيص أملهم.. إنهم يعيشون بالأمل.. وكثير من الألم!

تحرير من طرف ميلود الشلح
في 02/01/2018 على الساعة 02:32