الإعلامي والباحث ياسين كويندي يُفكّك ميكانيزمات علاقة الصحافة بالتاريخ

الباحث

في 22/04/2024 على الساعة 07:30, تحديث بتاريخ 22/04/2024 على الساعة 07:30

ينتمي الباحث ياسين كويندي إلى التجارب البحثية الجديدة التي تُظلّل بسيرتها المعرفية مسار البحث العلمي في تاريخ المغرب.

إذْ على الرغم من اشتغال كويندي في المجال الإعلامي لأكثر من 20 سنة راكم فيها تجارب إعلامية هامّة وأصيلة، إلاّ أنّه ظلّ حريصاً على مستقبله كباحث. هذا الأمر، جعله مسافراً باستمرار صوب آفاق البحث التاريخي وتغذية فكره ووجدانه بمصادر تاريخية ومراجع فكريّة. ومن جالس كويندي سيكتشف مدى حرقة الرجل في تحصين نفسه بالمعارف والأفكار والنظريات، لا كبذخ فكري يجعله يتوفّر على حظوة رمزيّة في المجال الإعلامي الذي ينتمي إليه، بل كحصانة فكريّة تجعله يغذّي مجاله الإعلامي بالمعارف والأفكار. خاصّة في زمنٍ يتراجع فيه الإعلام الجاد، لا باعتباره وسيطاً يُقدّم جملة من المعلومات والأخبار في السياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة، بل بوصفه مختبراً قابلاً لتكثيف القول وجعل المادة الإعلامية تغدو وسيلة لتعميق النّظر وطرح القضايا الحقيقة التي تعترض سير وتقدّم البلد. يؤمن ياسين كويندي بضرورة أنْ يكون الصحافي حاملاً للرأسمال المعرفي، بحيث أنّ هذا الأخير، يتحكّم في مساره كإعلامي ويجعله يبق مؤمناً بالحقيقة ومُلتصقاً بمسام الواقع ويستشعر كافة تحوّلاته السياسية والاجتماعية، بل ويستوعبها ويُحاول التعبير عنها بقدرٍ معرفي ممكن ووفق آفاق فكريّة رحبة تخترق الحدود والسياجات.

عن علاقة الإعلام بالتاريخ ودور الصحافي في كتابة التاريخ الراهن، كان لنا مع الباحث والإعلامي ياسين كويندي هذا الحوار:

بداية، من موقع تكوينك في مجال التاريخ، والإعلام كيف تقرأ طبيعة العلاقة بين التاريخ والصحافة؟

في البداية يصعب الإحاطة بشكل كلي حول طبيعة العلاقة بين التاريخ والصحافة في حيز ضيق إلا أنني سأحاول التركيز بشكل دقيق. أولًا سنركز في فهم هذه العلاقة من محدد أساسي ألا وهو تاريخ الزمن الراهن وستكون المقارنة بين الصحفي الاستقصائي والمؤرخ أو الباحث في مجال التاريخ في هذا الاطار يمكننا القول إن هناك نقاط تكامل وتماهي وأيضاً اختلاف أو التباس كما ينعت ذلك البعض..

في نقطة التكامل يسعى كل من المؤرخ والصحفي إلى تقصي الخبر والتفاعل مع الأحداث والوقائع في هذا الإطار يقول عبد الله العروي " كلاهما يعتمد على مخبر وكلاهما يؤول الخبر ليعطيه معنى » كما أنهما يعتمدان على " المادة المصدرية » مع اختلاف طبيعتها ومنهجية الاشتغال إلا أنهما يتقيدان معا بأقنوم الموضوعية وهي من بين التأكيدات التي وقف عندها عبد الله العروي » إشكالية الموضوعية وحدود إدراك - الواقع كما حدث - واحدة بالنسبة إليهما معا ( المؤرخ والصحفي) " ثم تعددت الحدود الفاصلة بين الجانبين في كتابات مختلفة إلا درجة هناك من اعتبر صعوبة احداث جدار سميك بين المؤرخ والصحفي كما هو الشأن مع كزريسوف بوميان Kriystof Pomian الذي قال « باستحالة وضع جدار بين مؤرخ الزمن الراهن والصحفي الذي يدرس الوثائق العمومية والخصوصية ويبحث بدقة في صحافة الفترة المدروسة ويغوص في المذكرات والنشرات الاحصائية وغيرها من الأحداث الرسمية ويسجل الاستجوابات مع الأشخاص الذين ساهموا في الأحداث ففي الحالتين معا يتم البحث بطرق مماثلة ولو أن هناك اختلافاً في أسلوب تقديم النتائج ومع أن هذا الاختلاف ليس أمراً وارداً في جميع الحالات. »

إلا أن الاختلاف يظل قائماً من نقطة الزمن وذلك في سرعة التعاطي مع مع الخبر والأحداث حيث إن الصحفي يسعى إلى السبق والجدة وهي شروط من أساسيات العمل المهني غير أن هذا الامتياز يبقى مرهونا بهاجس الدقة وفي هذا الإطار يحدد عبد الله العروي عبارة دقيقة تخلص طبيعة اشتغالهما أي المؤرخ والصحفي من محدد الزمن حين يؤكد « أن الفرق بينهما هو في المهلة المخولة لكل واحد منهما، إذا ضاقت تحول المؤرخ إلى صحفي، وإذا عاد الصحفي إلى الأخبار بعد مدة وتأملها تحول إلى مؤرخ »

وفي هذا السياق غالبا ما يتهم الصحفي إلى بافتقار تحليله للأحداث وإلى العمق بفعل التأويل المتسرع وإصدار الأحكام في خضم تحليل الأحداث وهناك في هذا الصدد مقولة مشهورة لبول ريكور بأن الصحافة مسودة التاريخ الأولى.

ومن أجل فهم أعمق علاقة المؤرخ بالزمن نستحضر هنا ما جاء في كتاب الصحافة والتاريخ للمؤرخ الطيب بياض مؤكدا " أن المؤرخ شديد الالتصاق بالزمن لا يخرج منه أبدا تقوده مراوحة ضرورية إلى أن يصيخ السمع أحيانا للموجات الكبرى للظواهر المرئية العابرة في الزمن من جانب آخر ، والقبض أحيانا أخرى على اللحظة الإنسانية حيث يجري تكثيف هذه التيارات في العقدة القوية للوعي ».

كيف تحدد طبيعة عمل كل من الصحفي والمؤرخ في المغرب؟

كلاهما يشتغلان في ظل ظروف مختلفة من حيث الانتاج والعطاء إلا أن هذه الظروف متشابهة في ظل التراجعات التي يعرفها الفعل الصحفي والبحث التاريخي ويمكن قياس ذلك باستدعاء السياق التاريخي حول الأدوار التي كان يضطلع بها الصحفي في مراحل سابقة باعتباره حاملا لمشروع فكري وأيديولوجي في مراحل اتسمت بالتواتر والصدام في سياق بناء دولة المؤسسات إلا أن هذا التوجه عرف نوعا من الخفوت في ظل تغير المعطيات وشروط المرحلة الحالية وأصبح الأمر يقتصر على التعاطي مع المهنة خارج حدود الهم المجتمعي ومزاولة المهنة وفق خيار الوظيفة.

أما في ما يخص طبيعة عمل المؤرخ اليوم أعتبر أن البحث التاريخي فقد ذلك الوهج المشرق الذي انقشع مع الرعيل الأول الجيل المؤسس والجيل الثاني وما بعدهم الذين أثّروا بإنتاجاتهم المتميزة الكتابة التاريخية المغربية ونذكر من بين هؤلاء الرواد لا حصر محمد القبلي وعبد الله العروي ومحمد حجي وجرمان عياش وإبراهيم بوطالب ومحمد زنيبر ومحمد المنوني وعبد الأحد السبتي ومحمد حبيدة والطيب البياض وغيرهم من كبار المؤرخين المغاربة الذين كانت لهم إسهامات علمية رصينة.

وفي نظري إن تجربة الكتابة التاريخية في المغرب مطالبة اليوم بالتجديد انطلاقا من تقييم المنجز قصد تجاوز التكرار كما هو حاصل الآن حيث دعا الأستاذ عبد الأحد السبتي بضرورة « إنشاء سجل وطني للأطروحات " وهذ الأمر سيساعد من دون شك في الإتيان بالجديد على مستوى مواضيع البحث مع ضرورة الانفتاح بشكل أكبر على حقول معرفية متنوعة لإغناء البحث التاريخي.

للصحافي دور كبير في بناء شرعية الحاضر من وجهة نظر تحتفي باليومي. هل تعتقد أن رجل الصحافة قادر على التأريخ للرجّات التي تطال المجتمع في الحقبة الراهنة؟

كما تعلم فإن تاريخ الزمن الراهن لم يعد مقتصرا فقط على الصحفيين بل أصبح يدخل ضمن اهتمامات المؤرخين في إطار معالجة علمية وحسب ما جاء في كتاب الزمن الراهن للمؤرخ التونسي فتحي ليسير الذي دقق في أهم تعريفات تاريخ الزمن الراهن في كونه « ذلك التاريخ الذي لا يزال فاعلوه وشهوده ( بما فيهم الباحث ) على قيد الحياة وإذن فهو تاريخ تحت المراقبة une histoire sous surveillance بمعنى أنه يكتب تحت مراقبة الفاعلين الاجتماعيين " ومن هنا بدأ الاحتكاك المباشر بين الصحفي والمؤرخ حول الأحقية في كتابة تاريخ الزمن الراهن وأقصد هنا الكتاب الصحفيون أصحاب الإنتاج الصحفي ذا المسحة التاريخية ولقد شكل نجاحهم عامل استفزاز لدى المؤرخين المحترفين في مراحل معينة وهناك من اعتبرهم أنهم وجدوا إيقاعهم على غرار برونو فرابا Bruno Frappat معتبرا أن هذا الإيقاع يشكل محدوديته وامتيازه في نفسن الآن ليس له وزن المؤرخ ووثائقه في حين أن ألبير كامي اعتبر أن الصحفي هو مؤرخ اللحظة ومن أجل تجاوز هذا الحكم هناك من يسمو بالخدمة الجليلة التي يقدمها الصحفي للمؤرخ كما قلت سابقا حسب المقولة المشهورة لبول ريكور أن التاريخ كتابة مستمرة لكتابات سابقة فإنه قد يمكننا القول ههنا إن الصحفي هو الذي يحبر المسودة الأولى للتاريخ

من هذا المنطلق، كيف تقيّم وتشخص واقع الاعلام بالمغرب، خاصة وأن لك تجربة تقارب 20 سنة من الاشتغال اليومي؟

للأسف واقع الإعلام ببلادنا يعرف تراجعات مهولة على المستوى المهني والأخلاقي. ومن أجل فهم هذا المعطى لابد من مسألة القطاع الوصي حول مجهوداته التي لا تخرج عن دائرة الترسانات القانونية المؤطرة والدعم الذي لا يرقى للنهوض بالقطاع مثلا عندما نتحدث عن القطاع السمعي البصري أرى من وجهة نظري ظل جامدا ولم نستثمر في التراكم من أجل تطويره حتى يواكب تطلعات المواطنين وذلك بسبب التعامل معه خارج القطاعات الاستراتيجية للدولة وهذا أمر خاطئ ثم عدم الاستثمار بشكل أكبر في الكفاءات المهنية سواء التي قطعت أشواطاً في الممارسة المهنية أو تلك التي أحيلت على التقاعد خاصة في التسيير أو التكوين وهذا ما قصدت به الاستثمار في التراكم لأن هذا القطاع يتمتع بفلسفة خاصة لاسيما في اطار التدبير كما يقال أهل المهنة أدرى بحالها.

ماذا عن واقع الاشتغال في قسم الأخبار بالقناة؟

كما تعلم الاشتغال في غرفة الأخبار يعتبر عملا مضنيا رغم ذلك بطعم خاص يستلزم الأمر متابعة دقيقة على مدار الساعة في مواكبة جل الأحداث الوطنية والدولية التي تلبي تطلعات المشاهدين رغم تأثير شبكات التواصل الاجتماعي على التلفزيون ورغم مزاياها إلا أنها تدفع المواطن إلى البحث عن مصدر المعلومة الصحيحة خاصة في الفترات الأزمات والكوارث كما كان الحال في فترة الجائحة أصبح الإعلام العمومي مصدر المعلومة الصحيحة في تلك الفترة حققت نشرات الأخبار نسب مشاهدة قياسية إلا أنه للأسف لم يتم استثمار هذا التصالح بشكل ذكي في ظل غياب رؤية استراتيجية تساهم في الحفاظ على استعادة هذه الهيمنة إلا أن سرعان ما عادة الأمور إلى وضعها الذي كانت عليه وهذا راجع بالأساس إلى غياب نفس جديد متجدد لا يرتكن للجانب المتكلس أي الروتين اليومي في العمل هذا الأمر يلزم معه طاقات شابة حيوية تعي حجم الضرورة المهنية في بدل المزيد من العطاء والجهد اليومي بدون كلل أو ملل الذي قد يصيب من يجر معه تراكم عقود من الزمن في اطار التدبير.

في أبحاثك الأكاديمية الأخيرة، تشتغل على شخصية عبد الهادي بوطالب. ما الغرض من دراسة هذه الشخصية التي تمثل نخبة ما بعد الاستقلال؟

اختيار موضوع « النخبة السياسية المغربية بعد الاستقلال » في اطار أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه أعتبره مدخلا أساسيا من أجل دراسة وتحليل وفهم مرحلة دقيقة من تاريخ المغرب الراهن كما تعلم هذه المرحلة اتسمت بالغموض واللبس في مسار بناء الدولة الحديثة وتحكمت فيها مجموعة من الطروحات الأيديولوجية في ظل تضارب الخيارات والرؤى الساعية إلى احتكار السلطة بين الأطراف المهيمنة على المشهد السياسي ومشوبة بكثير من التوتر والصراع حول المواقع

وفي طل هذا السياق يتضح أنه سرعان ما انهار التوافق بين مكونات الحركة الوطنية غداة الاستقلال وانتصر منطق التحكم في اطار التصفيات السياسوية..

ومن أجل البحث في هذه المرحلة بشكل دقيق جعلنا من بحثنا عبارة عن محاولة في كتابة بيوغرافية تاريخية نرصد من خلالها مسار واحد من رموز النخبة السياسية المغربية يتعلق الأمر بعبد الهادي بوطالب الذي ينتمي إلى كوكبة من الشخصيات السياسية الوطنية والثقافية الحملة لهم نهضوي والتي ارتمت مبكرا في حضن الحركة الوطنية ووجدت نفسها في معمعان العمل السياسي والتنظيمي والنضالي ضد الاستعمار من أجل تحقيق الاستقلال وبناء الدولة المغربية الحديثة ويعد العلامة عبد الهادي بوطالب من النخب الوطنية التي وجدت نفسها في قلب الأحداث السياسية التي أشرت على بناء المغرب المستقل لقد شارك في الحكومة الأولى الأساسية كما تقلد العديد من المناصب الوزارية والدبلوماسية .. وارتبط اسمه بشكل أساسي بمناهضة هيمنة الحزب الواحد، وبالعمل من أجل إفساح المجال أمام التعددية السياسية.

وبالتالي يمكنني القول إن موضوع النخبة السياسية في مغرب ما بعد الاستقلال قد استأثر باهتمام خاص من قبل الباحثين في علم السوسيولوجيا وعلم السياسة ولكننا نعتقد أن مجال البحث التاريخي كفيل في أن يجعلنا نقدم إسهاما جديدا في هذا الباب لاسيما وأن موضوع البحث يتقف اثر واحد من الفاعلين البارزين ضمن كوكبة هذه النخبة السياسية المغربية.

تحرير من طرف أشرف الحساني
في 22/04/2024 على الساعة 07:30, تحديث بتاريخ 22/04/2024 على الساعة 07:30